عشاق فجر الظهور
رحيم حسين مبارك
قد نتصوّر أننا الوحيدون المتلهّفون لفجر ظهور مهدي آل محمّد عليه السلام، وقد نغفل عن حقيقة أنّ لهذا الشوق والتطلّع روّاده الأوائل الذين ترقّبوا بلهفة لا تحدّها حدود يومَ الفتح الكبير، وانتظروا بشوق ولوعة اليوم الذي تخفق فيه راية الإسلام الظافرة على ربوع البسيطة، واستشرفوا طلوع فجر الانتصار الكبير للحقّ على الباطل، وترقّبوا بإيمانٍ ويقين صولة دولة العدل وانهيار كيان الباطل.
* لقد كابد الحبيب المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم لوعة الشوق إلى لقاء المهدي المنتظر عليه السلام وأصحابه، وعبّر عنهم ـ وهنيئاً لهم ـ بأنّهم إخوانه الذين آمنوا به دون أن يروه، وأنّه عليه السلام يعرفهم بأسمائهم وأسماء آبائهم وهم في أصلاب الآباء وأرحام الأمّهات.
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يتلهّف للقاء المهدي عليه السلام وأصحابه
ـ روي بالإسناد عن أبي الجارود، عن أبي بصير، عن أبي جعفر عليه السلام، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ذات يوم وعنده جماعة من أصحابه: (اللهم لَقّني إخواني) مرّتَين، فقال مَن حوله من أصحابه: أما نحن إخوانك يا رسول الله؟ فقال: لا، إنّكم أصحابي، وإخواني قومٌ في آخر الزمان آمنوا ولم يَرَوني، لقد عَرَّفَنيهم الله بأسمائهم وأسماء آبائهم من قبل أن يُخرجهم من أصلاب آبائهم وارحام أمّهاتهم، لأحدُهم أشدّ بُقية على دينه من خَرط القَتاد في الليلة الظلماء، أو الكالقابض على جَمر الغضا. أُولئك مصابيح الدجى، يُنجيهم الله من كلّ فتنة غبراء مظلمة.(١)
ـ روى الشيخ الصدوق بإسناده عن أبي عبد الله الصادق عليه السلام، عن آبائه عليهم السلام، عن عليّ عليه السلام، أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، قال له (في حديث طويل): يا عليّ، واعلَم أنّ أعجب الناس إيماناً وأعظمهم يقيناً قومٌ يكونون في آخر الزمان، لم يلحقوا النبيّ، وحُجِب عنهم الحجّةُ، فآمنوا بسوادٍ على بياض.(٢)
* وها هو أمير المؤمنين عليه السلام يفكّر في ولده المهديّ عليه السلام الذي سيولد من صُلبه فيملأ الأرض عدلاً كما مُلئت ظلماً وجوراً،ويتأوّه شوقاً إلى رؤيته ثمّ يصف عليه السلام المهتدين في غيبة إمامهم بأنّهم خيار هذه الأمّة المقرونين بأبرار العترة.. وها هو عليه السلام يضرع إلى الخالق الحكيم تبارك وتعالى أن يجعل بيعة المهدي عليه السلام خروجاً من الغمّة، وأن يجمع به شمل الأمّة...
أمير المؤمنين يفكّر في ولده المهدي عليه السلام
ـ روى الكلينيّ بالإسناد عن ابن نُباتة، قال: أتيتُ أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام، فوجدته مفكّراً ينكت في الأرض، فقلت: يا أمير المؤمنين، مالي أراك مفكّراً تنكت في الأرض، أرغبةً فيها؟ قال: لا والله ما رغبتُ فيها ولا في الدنيا يوماً قطّ، ولكنّي فكّرت في مولود يكون مِن ظَهري، الحادي عشر من ولدي، هو المهديّ يملأها عدلاً كما مُلئت ظلماً وجوراً، تكون له حَيرة وغيبة يَضل فيها أقوام ويهتدي فيها آخرون.
فقلت: يا أمير المؤمنين، وإنّ هذا لَكائن؟!
فقال: نعم، كما إنّه مخلوق، وأنّى لك بالعلم بهذا الأمر يا أصبَغ، أولئك خيار هذه الأمّة مع أبرار هذه العترة.
قلت: وما يكون بعد ذلك؟
قال: ثمّ يفعل الله ما يشاء، فإنّ له إرادات وغايات ونهايات.(٣)
ـ روى النعماني بالإسناد عن سليمان بن هلال، قال: حدّثنا جعفر بن محمّد عن ابيه، عن جدّه، عن الحسين بن عليّ، قال: جاء رجل إلى أمير المؤمنين عليه السلام فقال له: يا أمير المؤمنين، نَبّئْنا بمهديّكم هذا.
فقال: إذا درج الدارجون، وقلّ المؤمنون، وذهب المُجلبون، فهناك. فقال: يا أمير المؤمنين عليك السلام، فمَن الرجل؟ فقال: مِن بني هاشم، من ذروة طَود العرب وبحر مَغيضها إذا وردت، ومجفوّ أهلها إذا أتت، ومعدن صفوتها إذا اكتدرت، لا يجبن إذا المنايا هلعت، ولا يحور إذا المؤمنون اكتنفت، ولا ينكل إذا الكُماة اصطرعت، مشمّر مغلولب ظفر ضرغامة، حصد مخدش ذكر، سيف من سيوف الله، رأس قُثم، نشؤ رأسه في باذخ السؤدد، وغارز مجده في أكرم المَحتد، فلا يصرفنّك عن تبعته صارفٌ عارض، ينوص إلى الفتنة كلّ مناص، إن قال فشرٌّ قائل، وإن سكت فذو دعاير.
ثم رجع إلى صفة المهديّ عليه السلام، فقال: أوسعكم كهفاً، وأكثركم علماً، وأوصلكم رحماً. اللهمّ فاجعل بعثه خروجاً من الغمّة، واجمع به شَمل الأمّة، فإن خار الله لك فاعزم، ولا تَنثَنِ عنه إن وُفّقت له، ولا تجيزنّ عنه إن هُديت إليه، هاه ـ وأومأ بيده إلى صدره ـ شوقاً إلى رؤيته.(٤)
* وذلك هو صادق آل محمد عليهم السلام يبكي بكاء الواله الثأكل، قد نفت غيبة ولده المنتظر عليه السلام رقاده وضيّقت عليه مهاده، وأسرت منه راحة فؤاده.. حتّى برح لا ترقأ دمعة عينه، ولا يفتر أنين صدره، حزناً على بلوى المؤمنين في غيبة إمامهم، التي ستمتد ليصرح الحقّ عن محضه وليصفو الايمان من الكدر.
مستدلاً عليه السلام على عمر القائم عليه السلام بطول عمر العبد الصالح الخضر عليه السلام الذي طوّل الله تبارك وتعالى عمره ليقطع بذلك حجّة المعاندين والمكابرين.
الإمام الصادق يندب المهديّ عليه السلام
ـ روى الصدوق بالإسناد عن سُدير الصَّيرفيّ، قال: دخلت أنا والمفضّل بن عمر وأبو بصير وأبان بن تغلب، على مولانا أبي عبد الله جعفر بن محمد عليه السلام، فرأيناه جالساً على التراب وعليه مسح خيبريّ مطوّق بلا جيب، مقصر الكُمّين، وهو يبكي بكاء الواله الثكلى ذات الكبد الحرّى، قد نال الحزن من وجنتَيه، وشاع التغيّر في عارضَيه، وأبلى الدموع محجَريه، وهو يقول: سيّدي، غَيبتُك نَفَت رُقادي، وضَيّقت عليّ مِهادي، وأسرت منّي راحة فؤادي. سيّدي، غَيبتك أوصلت مصابي بفجائع الأبد، وفقد الواحد بعد الواحد يفني الجمع والعدد، فما أحسّ بدمعةٍ ترقأ من عيني، وأنين يفتر من صدري عن دوارج الرزايا وسوالف البلايا، إلاّ مثّل لعيني عن غوابر أعمّها وأفظعها، وبواقي أشدّها وأنكرها، ونوايب مخلوطة بغضبك، ونوازل معجونة بسخطك.
قال سدير: فاستطارت عقولنا وَلَهاً، وتصدّعت قلوبنا جزعاً من ذلك الخطب الهائل والحادث الغائل، وظننّا أنّه سمة لمكروهة قارعة أو حلَّت به من الدهر بائقة.
فقلنا: لا أبكى الله ـ يا ابن خير الورى ـ عينيك. من أيّ حادثة تستنزف دمعتك، وتستمطر عيونك؟ وأيّة حالة حتّمت عليك هذا المأتم؟
قال: فزفر الصادق عليه السلام زفرة انتفخ منها جوفه، واشتدّ منها خوفه، وقال: وَيلكم! إنّي نظرت في كتاب الجفر صبيحة هذا اليوم؛ وهو الكتاب المشتمل على علم المنايا والبلايا والرزايا، وعلم ما كان وما يكون إلى يوم القيامة، الذي خصّ الله تقدّس اسمُه به محمّداً والأئمّة من بعده عليه وعليهم السلام، وتأمّلت فيه مولد قائمنا وغيبته وإبطاءه وطول عمره، وبلوى المؤمنين به من بعده في ذلك الزمان، وتولّد الشكوك في قلوبهم من طول غيبته وارتداد أكثرهم عن دينهم وخلعهم ربقة الإسلام من أعناقهم التي قال الله تقدّس ذكره: (وَكُلَّ إنسانٍ ألزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِه)(٥) يعني الولاية، فأخَذَتني الرقّة، واستَولَت عليّ الاحزان.
فقلنا: يا ابن رسول الله، كرِّمنا وشرِّفنا بإشراكك إيّانا في بعض ما أنت تعلمه من عِلم ذلك.
قال: إنّ الله تبارك وتعالى أدار في القائم منّا ثلاثةً أدارها في ثلاثة من الرسل: قدّر مولده تقدير مولد موسى عليه السلام، وقدّر غيبته تقدير غيبة عيسى عليه السلام، وقدّر إبطاءه تقدير إبطاء نوح عليه السلام، وجعل من بعد ذلك عمر العبد الصالح ـ أعني الخضر ـ دليلاً على عمره. (ثمّ ذكر الإمامُ الصادق عليه السلام قصّة مولد موسى عليه السلام، وقصّة غيبة عيسى عليه السلام، وقصّة إبطاء العقوبة التي استنزلها نوح عليه السلام على قومه، إلى أن قال الصادق عليه السلام):
وكذلك القائم عليه السلام تمتدّ أيّام غيبته ليصرّح الحقّ عن محضه، وليصفو الإيمان من الكدر وأمّا العبد الصالح الخضر عليه السلام : فإنّ الله تبارك وتعالى ما طوّل عمره لنبوّةٍ قدّرها له، ولا لكتاب ينزله عليه، ولا لشريعة ينسخ بها شريعة مَن كان قبله من الأنبياء، ولا لإمامة يلزم عباده الاقتداء بها، ولا لطاعة يفرضها له. بلى، إن الله تبارك وتعالى لمّا كان في سابق علمه أن يُقدّر من عمر القائم عليه السلام في أيام غيبته ما يقدّر، وعلم ما يكون من إنكار عباده بمقدار ذلك العمر في الطول، طوّل عمر العبد الصالح من غير سبب أوجب ذلك، إلاّ لعلّة الاستدلال به على عمر القائم عليه السلام، وليقطع بذلك حجّة المعاندين، لئلاّ يكون للناس على الله حجّة.(٦)
ـ روى الصدوق بإسناده عن صفوان الجمّال، قال: قال الصادق عليه السلام : أما واللهِ لَيغيبَنّ عنكم مهديّكم حتّى يقول الجاهل منكم: ما لله في آل محمّدٍ حاجة! ثمّ يُقبل كالشهاب الثاقب فيملؤها عدلاً وقسطاً كما مُلئت جوراً وظلماً.(٧)
* وتلاهما ثامن أئمة الهدى، الإمام الرضا عليه السلام في قصّته الشهيرة مع دعبل الخزاعي، فقد بكى عليه السلام حين سمع دعبل يذكر خروج الإمام الذي سيخرج ـ لا محالة ـ ويقوم على اسم الله بالبركات، وقال لدعبل بأنّ روح القدس نطق على لسانه بهذين البيتين.
ونرى الإمام الرضا عليه السلام يفدي مهدي آل محمد عليه السلام بأمّه وأبيه، ويصفه بأن عليه جيوب النور تتوقّد من شُعاع ضياء القدس.
الإمام الرضا يبكي ويتلهّف عند ذكر المهدي عليه السلام
ـ روى الشيخ الصدوق بإسناده عن عبد السلام بن صالح الهرويّ، قال: سمعتُ دعبل الخُزاعيّ يقول: أنشدتُ مولاي الرضا عليّ بن موسى عليه السلام قصيدتي التي أوّلها:
مدارسُ آياتٍ خَلَت من تلاوة ومنزلُ وحي مُقفرُ العَرَصات
فلمّا انتهيتُ إلى قولي:
خروجُ إمامٍ لا محالةَ خارج يقوم على اسمِ الله بالبركاتِ
بكى الرضا عليه السلام بكاءً شديداً، ثم رفع رأسه إليّ فقال لي: يا خُزاعيّ، نطق روحُ القُدُس على لسانك بهذَين البيتَين، فهل تدري من هذا الإمام، ومتى يقوم؟ فقلت: لا يا مولاي، إلاّ أنّي سمعتُ بخروج إمام منكم يطهّر الأرض من الفساد ويملأها عدلاً كما مُلئت جوراً.
فقال: يا دِعبِل، الإمام بعدي محمّد إبني، وبعد محمّد إبنُه عليّ، وبعد عليّ إبنه الحسن، وبعد الحسن إبنه الحجّة القائم المنتظَر في غيبته، المُطاع في ظهوره؛ لو لم يَبقَ من الدنيا إلا يوم واحد، لَطوّل اللهُ عزّوجلّ ذلك اليوم حتى يخرج فيملأ الأرض عدلاً كما مُلئت جوراً.(٨)
ـ روى الشيخ الصدوق بإسناده عن الحسن بن محبوب، عن الإمام الرضا عليه السلام (في حديث ذَكَر فيه الإمام المهدي عليه السلام )، قال: بأبي وأمّي سَميّ جدّي وشبيه موسى بن عِمران عليه السلام، عليه جيوب النور تتوقّد من شعاع ضياء القدس.(٩)
* وبكى الإمام الجواد عليه السلام بكاءً شديداً حين سُئل عن الإمام بعد الحسن العسكري عليه السلام، وامتدح منتظري الظهور ووصفهم بأنهم المخلصون المسلّمون الناجون، وذمّ الوقّاتين والمكذّبين والجاحدين والمستعجلين.
الإمام الجواد يبكي ويتلهّف عند ذِكرِ المهديّ عليه السلام
ـ روى الشيخ الصدوق بإسناده عن الصقر بن أبي دُلَف، قال: سمعتُ أبا جعفر محمّد بن عليّ الجواد عليه السلام يقول: إنّ الإمام بعدي إبني عليّ، أمرُه أمري، وقولُه قولي، وطاعته طاعتي؛ والإمام بعده إبنه الحسن، أمره أمر أبيه، وقوله قول أبيه، وطاعته طاعة أبيه؛ ثم سكت، فقلتُ له: يا ابنَ رسول الله، فمَن الإمام بعد الحسن؟ فبكى بكاءً شديداً، ثمّ قال: إنّ من بعد الحسن إبنه القائم بالحقّ المنتظر. فقلت له: يا ابن رسول الله، لِمَ سُمّي القائم؟ قال: لأنّه يقوم بعد موت ذِكره وارتداد أكثر القائلين بإمامته. فقلتُ له: ولم سُمّي المنتظَر؟ قال: لأنّ له غيبة يكثر أيّامُها ويطول أمدُها، فينتظر خروجَه المخلصون، ويُنكره المرتابون، ويستهزئ بذِكره الجاحدون، ويُكذّب فيها الوقّاتون، ويهلك فيها المستعجلون، وينجو فيها المسلّمون.(١٠)
الهوامش:
ـــــــــــــــــــــ
(١) بحار الأنوار ١٢٣:٥٢.
(٢) كمال الدين١: ٢٨٨ ح٨؛ بحار الأنوار ١٢٥:٥٢.
(٣) الكافي١: ٣٣٨؛ بحار الأنوار ٥٢: ١١٨.
(٤) الغيبة للنعمانيّ ٢١٢ ـ ٢١٤ ب ١٣ ح١، بحار الأنوار ٥١: ١١٥.
(٥) الإسراء:١٣.
(٦) كمال الدين٢: ٣٥٣، بحار الأنوار٥١: ٢١٩.
(٧) كمال الدين٢: ٣٤١ ح٢٣، بحار الأنوار٥١: ١٤٥.
(٨) كمال الدين٢: ٣٧٢ ـ ٣٧٣ ح٥.
(٩) نفس المصدر٢: ٣٧٠ ح٣.
(١٠) نفس المصدر٢: ٣٧٨ ح٣.