المعرفة والتسليم .. سبيل الانتظار للإمام المهدي (عجّل الله فرجه)
د. الشيخ عماد الكاظمي
إنَّ العلاقة بين المؤمنين والأئمة (عليهم السلام) هي من أعظم العلاقات العقائدية التي فرضها الله تعالى على العباد تجاه حججه في الأرض، وهي الصراط المستقيم التي تحصِّن الإنسان من الزيغ والضلال، كما ورد ذلك في كثير من الأحاديث كحديث الثقلين، وحديث سفينة نوح وغيرهما من الأحاديث، بل يجب على كُلِّ إنسان أنْ تكون له بيعة في عنقه لإمام زمانه بعد معرفته وطاعته له، فقد ورد في الحديث الشريف (مَنْ مَاْتَ وَلَمْ يَعْرِفْ إِمَاْمَ زَمَاْنِهِ مَاْتَ مِيْتَةً جَاْهِلِيَّةً)، والمعرفة في الحديث ليست معرفة الاسم والصفة، بل المعرفة العقائدية القائمة على الطاعة، ونحن - في هذا الزمن - لنا بيعة للإمام الثاني عشر محمد بن الحسن المهدي (عجّل الله فرجه)، وقد غاب غيبته الكبرى عن الأنظار سنة (٣٢٩ﻫ)، بعد غيبته الصغرى التي دامت سبعين عامً تقريباً، فكان المؤمنون يتصلون به عن طريق سفرائه الأربعة عثمان بن سعيد العمري، ومحمد بن عثمان العمري، والحسين بن روح النوبختي، وعلي بن محمد السمري، وبعد وفاة السفير الرابع بدأت غيبته (عجّل الله فرجه)، وما زالت الأمة بانتظار ظهوره الميمون ليملأ الأرض قسطاً وعدلاً، فكان المؤمنون في اختبار شديد في هذا الانتظار، وما مَرَّت على الأمة من محنٍ وابتلاءات منذ يوم غيبته للآن، وقد وردت روايات كثيرة عن النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) والأئمة (عليهم السلام) فيما يتعلق بزمن الغيبة، وما يجب على المؤمنين من المعرفة والتسليم لهذا الأمر ليكون الانتظار مثمراً وإيجابيّاً في تهيئة النفس والأمة لظهوره، ولأجل الوقوف على سبيل الانتظار الحقيقي له (عجّل الله فرجه) أحاول أنْ أٍستعرض حديثاً واحداً من الأحاديث الواردة في ذلك، والذي يبين مسؤولية الأمة تجاه ذلك؛ لنكون على بينة من السبيل الذي يوصلنا إلى طاعته، وانتظاره، والاستعداد للقائه، والقائم على معرفته والتسليم إليه في انتظاره، الذي هو أفضل الأعمال كما ورد في الحديث عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): (أَفْضَلُ جِهَاْدِ أُمَّتِي انْتِظَاْرُ الْفَرَجِ)، فإنَّ جميع الروايات الواردة عن النبي والأئمة (عليهم السلام) في خصوص القضية المهدوية لو أردنا دراستها بتفصيل لرأينا أنَّ السبيل الحقيقي للتعامل معها بإيجابية تامة يقوم على أمرين مهمين وهما: المعرفة والتسليم كما تقدم، وهذان الأمران من الأمور المهمة في التعامل مع القضايا المتعلقة بالعقيدة بصورة عامة، فالعقيدة قائمة على أساس هذين الجانبين من السلوك الإيماني تجاه الله تعالى من حيث النظرية والتطبيق، فالنظرية تتعلق بالجانب العلمي وهو المعرفة، والتطبيق يتعلق بالجانب العملي وهو التسليم، ويمكننا لأجل تحقيق ذلك أنْ تقرأ واحداً من تلك الأحاديث قراءة تأملية لنكون على بينة من ذلك، ومن تلك الأحاديث.
- روي عن المفضل بن عمر سمعت أبا عبد الله الصادق (عليه السلام) قال: أَمَاْ وَاللهِ لَيَغِيْبَنَّ إِمَاْمَكُمْ سِنِيْنَ مِنْ دَهْرِكُمْ وَلَتُمَحَّصُنَّ حَتَّى قَاْلَ: مَاْتَ؟ قُتِلَ؟ هَلَكَ؟ بِأَيِّ وَاْدٍ سَلَكَ؟ وَلَتَدْمَعُنَّ عَلَيْهِ عُيُوْنُ الْمُؤْمِنِيْنَ، وَلَتُكْفَأُنَّ كَمَاْ تُكْفَأُ السُّفُنُ فِيْ أَمْوَاْجِ الْبَحْرِ، فَلَا يَنْجُوْ إِلَّا مَنْ أَخَذَ اللهُ مِيْثَاْقَهُ، وَكَتَبَ فِيْ قَلْبِهْ الْإِيْمَاْنَ، وَأَيَّدَهُ بِرُوْحٍ مِنْهُ، قَاْلَ: فَبَكَيْتُ ثُمَّ قُلْتُ: فَكَيْفَ نَصْنَعُ؟ فَنَظَرَ إلى شَمْسٍ دَاْخِلَةٍ فِي الصُّفَّةِ فَقَاْلَ: يَا أَبَاْ عَبْدِ اللهِ تَرَى هَذِهِ الشَّمْسَ؟ قُلْتُ: نَعَمْ. قَاْلَ: إِنَّ أَمْرَنَاْ أَبْيَنُ مِنْ هَذِهِ الشَّمْسِ.
وعند التأمل في الحديث يمكن بيان ما يأتي:
١- إنَّ الإمام (عليه السلام) يشير إلى الغيبة بصورة مباشرة، وإلى مدتها الطويلة التي ستمر على الأمة من غير إمام لها يمكنها لقاؤه، وفي ذلك نوع من أنواع الابتلاءات التي يجب على المؤمنين الاستعداد له، وقد رأينا هناك خطوات متعددة قام بها الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) تعد كمنهج للأمة وهي تواجه واقعاً جديداً في غيبة إمامها.
٢- إنَّ الرواية تشير إلى شدة الابتلاء الذي سيكون عليه المؤمنون في غيبة الإمام المهدي (عجّل الله فرجه)، وهذا ما تنطوي عليه كلمة (لَتُمَحَّصُنَّ)، فالتمحيص شدة البلاء والاختبار لمعرفة الصادق والمخلص في اتباعه للإمام والاستعداد لظهوره، قال ابن فارس (ت٣٩٥ﻫ) في معنى التمحيص: (يَدُلُّ عَلَى تَخْلِيْصِ شَيْءٍ وَتَنْقِيَتِهِ. وَمَحَصَهُ مَحْصاً: خَلَّصَهُ مِنْ كُلِّ عَيْبٍ. وَمَحَصَ اللهُ الْعَبْدَ مِنَ الذَّنْبِ: طَهَّرَهُ مِنْهُ وَنَقَّاهُ وَمَحَّصَهُ. وَمَحَّصْتُ الذَّهَبَ بِالنَّاْرِ: خَلَّصْتُهُ مِنَ الشَّوْبِ)، وقال الراغب الأصفهاني (ت٥٠٢ﻫ): أَصْلُ الْمَحْصِ تَخْلِيْصُ الشَّيْءِ مِمَّا فِيْهِ مِنْ عَيْب، ٍيُقَاْلُ: مَحَصْتُ الذَّهَبَ وَمَحَّصْتُهُ إِذَا أَزَلْتَ عَنْهُ مَا يَشُوْبَهُ مِنْ خَبَثٍ، قال تعالى: ﴿وَلِيُمَحِّصَ اللهُ الَّذِيْنَ آمَنُوْا - وَلِيُمَحِّصَ مَاْ فَيْ قُلُوْبِكُمْ﴾، فَالتَّمْحِيْصُ هَا هُنَا كَالتَّزْكِيَةِ وَالتَّطْهِيْرِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنَ الْأَلْفَاظِ، وَيُقَاْلُ فِي الدُّعَاءِ: اللَّهُمَّ مَحِّصْ عَنَّا ذُنُوْبَنَا، أَيْ أَزِلْ مَا عَلُقَ بِنَا مِنَ الذُّنُوْبِ.
فمن خلال هذه المعاني لكلمة التمحيص نعرف شدة الابتلاء الذي ستمرُّ به الأمة عند الغيبة، وكذلك الأمر في قوله (لَتُكْفَأُنَّ) ففيه بيان إلى شدة الأمر، فالاكتفاء هو الميل، قال ابن فارس: الْكَاْفُ وَالْفَاْءُ وَالْهَمْزَةُ أَصْلَاْنِ يَدُلُّ أَحَدُهُمَاْ عَلَى التَّسَاْوِيْ فِي الشَّيْئَيْنِ، وَيَدُلُّ الْآخَرُ عَلَى الْمَيْلِ وَالْإِمَاْلَةِ وَالْاعْوِجَاْجِ، فَالْأَوَّلُ: كَاْفَأْتُ فُلَاْناً إِذَاْ قَاْبَلْتَهُ بِمِثْلِ صَنِيْعِهِ... وَأَمَّا الْآخَرُ فَقَوْلُهُمْ: أَكْفَأْتُ الشَّيْءَ إِذَاْ أَمَلْتَهُ. وَلِذَلِكَ يُقَاْلُ أَكْفَأْتُ الْقَوْسَ إِذَاْ أَمَلْتَ رَأْسَهَاْ وَلَمْ تَنْصِبْهَاْ حِيْنَ تَرْمِيْ عَنْهَاْ. وَاكْتَفَأْتُ الصَّحْفَةَ إِذَاْ أَمَلْتَهَاْ إِلَيْكَ. وَيُقَاْلُ: أَكْفَأْتُ الشَّيْءَ قَلَبْتُهُ.
فتشبيه حال المؤمنين في زمن غيبة الإمام (عجّل الله فرجه) كالسفينة التي تجري في البحر والمتلاطم وتميل مرة إلى هذه الجهة، ومرة إلى تلك، والحال الصعبة المضطربة فيها، وفي ذلك إشارة إلى شدة الفتن التي تميل بالناس وعقائدهم، فضلاً عن الحيرة، ولا يكون الثبات إلا لمن استطاع أنْ يحافظ على عقيدته بقوة ليحافظ على نفسه من الميل والانحراف.
٣- إنَّ الاختبار (التمحيص) الذي سيجري على المؤمنين فهو شديد جدّاً حيث يصل الحال إلى نوع من اليأس الذي سنراه من المؤمنين أنفسهم تجاه مدة غيبة الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) وأسباب طول غيبته، وإمكانية ظهوره، حتى يصل الحال بهم إلى القول بموته (عجّل الله فرجه)، وفي ذلك إنْ كان الكلام على الحقيقة فهو إشارة إلى حالة من حالات الإنكار لظهوره، وإنْ كان الكلام على المجاز ففيه إشارة إلى طول مدة الغيبة التي تؤدي إلى يأس الإنسان المنتظِر من رجوع المنتظَر، وفي كلا المعنيين بيان صورة جلية عن عظمة الابتلاء الذي سيراه المؤمنون في هذا الأمر.
وهذا الحال من الابتلاء قد أشار إليه القرآن الكريم فيما أصاب المؤمنين من شدة البلاء والأذى والضغط المادي والنفسي من قبل الطغاة في حركة الأنبياء الإصلاحية في المجتمع، حيث قال تعالى: ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللهِ قَرِيبٌ﴾، وفي ذلك رسالة من الثقلين - القرآن والعترة - إلى المؤمنين في الاستعداد لأيِّ نوع من أنواع الابتلاء الذي يصيبهم في الدنيا في سبيل الانتظار بصورة خاصة، أو الإصلاح الاجتماعي بصورة عامة مع ضمان النصر لهم.
٤- إنَّ في الرواية الشريفة بيان حال المؤمنين المنتظرين لإمام زمانهم، المستعدين لظهوره، المتلهِّفين لرؤيته، وهم في أشد شوق إلى طلعته، حيث تبكي عليه العيون عندما تذكر حاله وغربته، كما ورد هذا الحال في دعاء الندبة المشهور (عَزِيْزٌ عَلَيَّ أَنْ أَرَى الْخَلْقَ وَلَا تُرَى، وَلَا أَسْمَعُ لَكَ حَسِيْساً أَوْ نَجْوَى، عَزِيْزٌ عَلَيَّ أَنْ تُحِيْطَ بِكَ دُوْنِيَ الْبَلْوَى، وَلَا يَنَالُكَ مِنِّي ضَجِيْجٌ وَلَا شَكْوَى)، فالمؤمنون مرة يبكون تألُّماً وشوقاً إليه وإلى طلعته المباركة، ومرة تأسُّفاً لعدم اهتمام الناس به، والاستعداد والعمل للتمهيد لظهوره، بل وصول الحال بهم إلى إنكار ظهوره، أو عدم اليقين بظهوره على أقل تقدير، وما يترتب على ذلك من استعداد للعمل، فالمؤمنون في عصر غيبته لهم معاناة متعددة في المجتمع، فمرة بسبب إيمانهم وعقيدتهم ومواجهة الأعداء لهم، وثانية بسبب استهزاء الآخرين بعقيدة الانتظار والاستعداد لتلك الطلعة العظيمة، وثالثة لتشكيك بعض المؤمنين أنفسهم بظهوره وما يتعلق بذلك، فضلاً عن الظلم والجور الذي يحصل في المجتمع ولا يمكنهم الوقوف أمامه، وفي كُلِّ ذلك إشارة واضحة إلى المعاناة الشديدة التي يمرُّ بها المؤمنون، وإلى هذا اشار أمير المؤمنين (عليه السلام) بقوله: (مَنْ أَحَبَّنَا أَهْلَ الْبَيْتِ فَلْيَسْتَعِدَّ لِلْفَقْرِ جِلْبَاباً)، وقوله (عليه السلام): (مَنْ تَوَلَّانَا فَلْيَلْبَسْ لِلْمِحَنِ إِهَاباً)، فعلى هذا فإنَّ الإيمان الحقيقي والولاء الصادق لأهل البيت (عليهم السلام) يوجب على المؤمن الاستعداد لما تقدم، فالحب والولاء ليس مجرد كلمات وعواطف.
٥- تشير الرواية إلى التسديد الإلهي للمؤمنين فيما يتعلق بالانتظار والظهور على الرغم من شدة الابتلاءات كما تقدم، فالله تعالى يؤيِّد عباده الصادقين في نصرته، أو الاستعداد لنصرته، وهذا يتوقف على مستوى المعرفة والعمل، وكلما اشتد ذلك كان التسديد أقوى، وصار الإنسان المنتظِر أعظم يقيناً بمبدئه، والرواية تؤكد على موضوعات ثلاثة تجعله مؤهَّلاً للتسديد وهي:
أ- الميثاق القائم بين العبد وربه، والذي يدور حول مدى الطاعة لله تعالى والامتثال لأوامر، ومنها الاستعداد التام لنصرة الإمام (عجّل الله فرجه) ماديّاً ومعنويّاً، وما في ذلك من التمسك بالعهود والمواثيق التي يجب أنْ يلتزم بها العبد تجاه مولاه.
ب- الثبات والرسوخ في الإيمان، فرسوخ الإنسان على عقيدته والدفاع عنها، والتضحية بالشهوات واللذات الدنيوية من أجلها يجعل الإنسان مؤهَّلاً لنصر الله تعالى، فالنصر إنما يكون على قدر الاستعداد من العبد للطاعات، وهذا الرسوخ هو المعبَّر عنه في الرواية (كتب في قلبه الإيمان).
ت- التأييد الإلهي، فهو أعظم قوة يستمدها الإنسان المنتظر للإمام (عجّل الله فرجه)، وهو يتوقف على مدى الاعتقاد بهذه القضية، فضلاً عمَّا تقدم من أسباب أو مقدمات، وقد رأينا مدى التأييد الإلهي لعباده من خلال الآيات المباركة في ذلك.
فإنَّ من استطاع الوصول إلى هذه المنزلة من الحفاظ على الميثاق والتأييد الإلهي والرسوخ في العقيدة فهو أهلٌ لئن يرى حقيقة الظهور، والاستعداد له، والتضحية من أجله؛ لأنَّ إيمانه مستقر، وعقيدته راسخة، وله تسديد من الله تعالى، فتكون الغيبة ظهوراً عنده وحقيقة، كما أنَّ الشمس حقيقة، وأنَّ نورها موجود وإنْ حجبها السحاب يوماً من الأيام؛ ولذلك قال الإمام (عجّل الله فرجه): (إِنَّ أَمْرَنَا أَبْيَنُ مِنْ هَذِهِ الشَّمْسِ)، وفي هذا بشارة عظيمة من الله تعالى بوضوح الحجة، وأنَّ أمرهم هو أعظم من نور الشمس، فلا ينكر أحد رؤية النور إلا من فقد بصره، مع أنَّه يتحسس آثارها، وكذا لا ينكر أحد وجود الإمام وظهوره إلا مَنْ كان فاقداً لأدنى درجات المعرفة والبصيرة.
إنَّ هذا الحديث الشريف يجعلنا أنْ نتأمل كثيراً في حالنا وواقعنا تجاه الإمام المهدي (عجّل الله فرجه)، ومعرفة مدى المعرفة والتسليم لنكون على تصديق عقائدي عملي بانتظاره، وتهيئة النفس والأمة لذلك الظهور، لا مجرد كلمات نرددها بتعجيل الظهور، والدعاء من أجل الدولة الكريمة من غير عمل لها.. اللهم عجّل فرجه، ووفِّقنا للصدق في دعوتنا بتعجيل ظهوره، والتسليم لأمره، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد وآله الطاهرين.