مناهج الارتباط بالإمام المهدي (عجَّل الله فرجه)
الشيخ جاسم الوائلي
الارتباط بالإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) هو من المسائل المهمة التي يكثر طرحها والسؤال عنها، وعن المنهج الصحيح الذي يحقِّق الارتباط به (عجَّل الله فرجه) كما ينبغي، وربما تفاوتت الأجوبة على ذلك.
ويمكن القول: إنَّ للارتباط بالإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) ثلاثةَ مناهج:
الأوَّل: منهج الاعتدال.
الثاني: منهج الإفراط.
الثالث: منهج التفريط.
فأمَّا منهج الاعتدال فهو عبارة أخرى عن الحدود التي رسمتها لنا الشريعة في كافَّة المسائل، ومنها مسألة الارتباط بالإمام المهديِّ (عجَّل الله فرجه).
وأمَّا منهج الإفراط فهو المنهج الذي يتجاوز الحدود التي رسمتها الشريعة في مسألة الارتباط بالإمام المهديِّ (عجَّل الله فرجه)، ويرسم أتباع هذا المنهج حدوداً لأنفسهم نابعةً من بنات أفكارهم ومخترعاتهم.
وأمَّا منهج التفريط فهو منهج المقصِّرين عمَّا رسمته الشريعة من الحدود، كعدم إعطائهم العقيدة المهدويَّة مساحةً من فكرهم واهتمامهم، أو في سلوكهم، أو من كلا الحيثيَّتين.
وممَّا ذكرنا يتَّضح أمران:
١ - أنَّ المنهجين الأخيرين يشتركان في أنَّ كلَّ واحدٍ منهما هو خروج عن منهج الاعتدال.
٢ - أنَّ تحديد المنهجين المذكورين يتوقَّف على بيان حدود منهج الاعتدال ومعالمه، فكلُّ ما تجاوز حدوده وتعارض مع معالمه يندرج في منهج الإفراط، وكلُّ ما قَصُرَ عنها يندرج في منهج التفريط.
حدود منهج الاعتدال:
أمَّا حدود منهج الاعتدال في مسألة الارتباط بإمام الزمان (عجَّل الله فرجه) فهو ما أشرنا إليه قبل قليل إشارةً عابرة بأنَّه المنهج الذي رسمته لنا الشريعة.
ويمكن لنا أن نحدِّد دائرةَ هذا المنهج على ضوء جملة من نصوص الكتاب، وروايات العترة الطاهرة، وحكم العقل القطعي، فهنا ثلاثة أدلَّة:
الدليل الأوَّل: نصوص الكتاب العزيز:
ونقتصر منه على ثلاث آيات:
الآية الأوَّلى: قوله تعالى: ﴿أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدى فَما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ﴾ (يونس: ٣٥).
وتحديد هذه الآية لمنهج الاعتدال بشكل عامٍّ يتمُّ برسم نقاط خمسٍ:
١ - إنَّ الآية الكريمة تحصر الاِتِّباعَ بمن له القُدرَةُ على هِدَايَةِ الآخرين.
٢ - إنَّ قدرة الإنسان على هداية غيره تتوقَّف على أن يكون هو مُهتَدِياً وعارفاً بطريق الحقِّ في مرحلة سابقة، كشأن الدليل الذي يدلُّ المسافرين على الطريق، إذ لابدَّ أن يكون عارفاً بالمسالك والطرق التي تؤدِّي إلى المقصد، ليستطيع بدوره أن يَدُلَّ المسافرين على تلك الطرق، وإلَّا فلو لم يكن عارفاً بها لكان هو بحاجة إلى من يدلُّه عليها في مرحلة سابقة، وبعد أن يدلّه غيره ويصبح ذا خبرة كافيةٍ ليكون دليلاً ومرشداً للمسافرين لاسيما في الطرق الصحراوية فعند ذلك يصبح أهلاً للاتِّباع، وما من عاقل يترك المهتدي العارف بالطرق ولا يتَّبعه، ويبقى منتظراً إلى أن يتعلَّم الضَّالُّ الجاهل بها وصيرورته من المهتدين ليسير خلفه!.
إنَّه لا معنى له، بل هو موردٌ للتوبيخ الذي في الآية الشريفة، أعني قوله تعالى: ﴿فَما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ﴾.
٣ - إنَّ الآية الشريفة لا تختصُّ بزمان الحضور، بل تعمُّ زمان الغيبتين الصغرى والكبرى أيضاً، فلابدَّ من هادٍ يُهتدَى به في كلِّ مسألة في هذا الزمان، ومنها مسألة الارتباط بإمامنا المهديِّ (عجَّل الله فرجه)، فلابدَّ أن يكون ارتباطنا من خلال من له القدرة على ربطنا به (عجَّل الله فرجه) في زمن الغيبة الكبرى.
٤ - إنَّ الغيبة الكبرى تعني عدم الاتصال بالإمام المهديِّ (عجَّل الله فرجه) بالمباشرة، وإلَّا لم تصح تسميتها بالغيبة، كما تعني عدم وجود سفير خاصٍّ بيننا وبينه (عجَّل الله فرجه)، وإلَّا كانت غيبته غيبةً صُغرى لا كبرى، فتعيَّن أن يكون هناك طريق آخر للارتباط بالإمام المهديِّ (عجَّل الله فرجه).
٥ - إنَّ الطريق في زمن الغيبة الكبرى منحصر بعنوان واحد لا بديل عنه، وقد دلَّ عليه العقل والنقل، وهو الفقيه العادل.
وبهذه النقاط الخمس يثبت أنَّ منهج الاعتدال الذي رسمته لنا الشريعة منحصر باتِّباع الفقهاء العدول في زمن الغيبة الكبرى.
الآية الثانية: قوله تعالى: ﴿وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ﴾ (التوبة: ١٢٢).
وهذه الآية تحدد منهج الاعتدال في عموم المسائل المرتبطة بالشرع، ويتَّضح ذلك من خلال النقاط الثمانية الآتية:
١ - إنَّ الآية تحثُّ على التفقُّه في الدين ﴿فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ﴾.
٢ - من المعلوم أنَّ الهدف من التفقُّه في الدين هو التعرُّف على تعاليمه في مجال العقيدة، ومجال الأخلاق، ومجال الأحكام الفرعيَّة التي يتوجَّب على كُلِّ مكلَّف أن يمتثلها، فوجب التفقُّه في الدين لذلك كلِّه.
٣ - إنَّ ذهاب المؤمنين كافَّة لأجل التفقُّه في الدين أمرٌ غير ممكنٍ في العادة، لأنَّه يوجب تعطيل المعيشة وشلِّ الحياة بالكامل، وكما أشارت الآية بقولها: ﴿وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً﴾، فلا بُدَّ أن يقتصر وجوب التفقُّه على بعض المؤمنين بنحو الوجوب الكفائي، كما أشارت الآية بقولها: ﴿مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ﴾، أي جماعة.
٤ - إنَّ الآية تدلُّ على أنَّ الذين تفقَّهوا في الدين عليهم أن يُنذروا الذين لم يتفقَّهوا فيه، وعلى هؤلاء أن يحذروا عندما ينذرهم أولئك، وهو عبارة أخرى عن وجوب الأخذ بإنذارهم وإرشاداتهم على ضوء ما تعلَّموه.
٥ - إنَّ وجوب التفقُّه في الدين كفائي مستمرٌ في جميع العصور، ففي زمن النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) كان المؤمنون ينفرون إليه من أطراف بلد الإسلام ويتفقَّهون على يده (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، ثمَّ يرجعون إلى قراهم وبلداتهم كمرشدين ومراجع للدين، وكذا الحال بالنسبة إلى المؤمنين في عصر كُلِّ إمامٍ من أئمة الهدى (عليهم السلام).
٦ - إنَّ استمرار وجوب التفقُّه إلى زمان الغيبة الكبرى يستدعي التفرُّغ الكفائي للتفقُّه على ضوء الكتاب العزيز وروايات العترة الطاهرة كما أوجبه الشرع علينا في حديث الثقلين المتواتر، كالمروي عن أمير المؤمنين (عليه السلام) في حديث جاء فيه: «قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في آخر خطبته يوم قبضه الله (عزَّ وجلَّ) إليه: إنِّي قد تركت فيكم أمرين لن تضلوا بعدي ما إن تمسكتم بهما: كتاب الله، وعترتي أهل بيتي»(١).
٧ - إنَّ معظم تعاليم الإسلام لا يمكن استخراجها من الكتاب وأحاديث العترة (عليهم السلام) إلَّا من خلال إجراء عمليَّة الاستنباط، أعني الاجتهاد.
٨ - إنَّ القدرة على الاستنباط منحصرة بفئة خاصَّة من المؤمنين، وهم الفقهاء.
وبهذا يتَّضح أنَّ منهج الاعتدال يوجب على المؤمنين الرجوع في زمن الغيبة الكبرى إلى الفقهاء حصراً.
الآية الثالثة: قوله تعالى: ﴿فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ (النحل: ٤٣).
إنَّ هذه الآية الكريمة ترشد إلى قضية عقلائيَّة واضحة لا ينكرها إلَّا جاهل متوغِّل في الجهل أو معاند يقرُّ بها في قلبه وينكرها بلسانه، وكما قال تعالى: ﴿وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا﴾ (النمل: ١٤).
وتلك القضية الواضحة هي رجوع الجاهل بشيءٍ إلى العالم به، فإنَّ الآية وإن كانت واردة في قضيَّة خاصَّة إلَّا أنَّها ارتكزت في الاحتجاج على كفَّار قريش بما يحكم به العقلاء كافَّة، إذ لا معنى أن تحتجَّ عليهم بأمرٍ شرعيٍّ وهم كافرون بالشرع.
وهذه الآية الكريمة كسابقتيها ترسم لنا منهج الاعتدال في عموم مسائلنا الدينيَّة، ويتمُّ ذلك برسم نقاط ثلاث:
١ - إنَّ الجاهل بشيءِ عليه أن يرجع إلى العالِم به.
٢ - إنَّ العوام يجهلون بجميع المسائل الدينيَّة التي يتوقَّف العلم بها على الاجتهاد، ومنها كيفيَّة الارتباط بالإمام المهدي (عجَّل الله فرجه).
٣ - إنَّ الاجتهاد منحصر بالفقهاء، فهم وحدهم الذين لهم القدرة على البتِّ في هذه المسألة وغيرها من مسائل الدين.
فينتج عن ذلك: أنَّ الواجب على العوامّ في جميع المسائل الاجتهاديّة أن يرجعوا إلى الفقهاء، ومن بينها مسألة الارتباط بالإمام المهدي (عجَّل الله فرجه).
الدليل الثاني: نصوص العترة الطاهرة:
ونكتفي هنا بالإشارة إلى صنفين منها(٢):
الصنف الأوَّل: الروايات الصريحة في إرجاع الشيعة إلى الفقهاء في كلِّ زمان حتى في حياة الأئمَّة (عليهم السلام)، فما بالك بزمان غيبتهم، من قبيل:
١ - ما رواه عبد المؤمن الأنصاري، قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): إنَّ قوماً رَوَوا: أنَّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قال: «إن اختلاف أمتي رحمة»، فقال: «صدقوا»، قلت: إن كان اختلافهم رحمةً فاجتماعهم عذاب، قال: «ليس حيث ذهبت وذهبوا، إنَّما أراد قول الله (عزَّ وجلَّ): ﴿وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ﴾ [التوبة: ١٢٢]، فأمرهم أن ينفروا إلى رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، ويختلفوا إليه فيتعلَّموا، ثُمَّ يرجعوا إلى قومهم فيعلِّموهم، إنمَّا أراد: اختلافهم من البلدان، لا اختلافاً في دين الله، إنما الدين واحد»(٣).
وهذه الرواية هي من الروايات العامَّة التي لا تختصُّ بعصرٍ دون عصرٍ، وهي صريحة في أنَّ واجب غير المتفقِّه هو الرجوع إلى المتفقِّه حتى في زمن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، فيثبت بالأولويَّة القطعيَّة وجوب الرجوع إليهم في زمان الغيبة الكبرى، خصوصاً مع عدم البديل عن ذلك.
٢ - ما رواه النجاشي من قول إمامنا الباقر (عليه السلام) لأبان بن تغلب والذي كان من فقهاء أصحابنا: «اجلس في مسجد المدينة وأفتِ الناس، فإنِّي أُحِبُّ أن يُرَى في شيعتي مِثلُكَ»(٤).
وهذه الرواية وإن كانت واردةً في واحد من أصحاب إمامنا الباقر (عليه السلام) وهو أبان بن تغلب إلَّا أنَّها تدلُّ على تشريع الرجوع إلى الفقهاء الذين هم من أمثال أبان في كلِّ عصر، لأنَّها عبَّرت بلفظ «مِثلُكَ»، والإمام الباقر (عليه السلام) يحبُّ أن يُرى مثل أبان في الشيعة حتى في زمانه رغم وجوده (عليه السلام) بين المؤمنين، فما بالك لو كان هناك فقهاء مثل أبان في زمان يفقد فيه المؤمنون أئمَّتهم المعصومين (عليهم السلام)؟
وبعبارة أخرى: إنَّ هذه الرواية تدلُّ بالمطابقة على مرجعيَّة الفقهاء من أمثال أبان بن تغلب في زمان حضور المعصومين (عليه السلام)، وتدلُّ بالالتزام والأولويَّة القطعيَّة على مرجعيَّة الفقهاء من أمثال أبان في زمان غيبتهم (عليه السلام).
فثبت أنَّ منهج الاعتدال يحصر المرجعيَّة في المسائل الدينيّة بالفقهاء دون غيرهم.
فإن قال قائل: إنَّ المرجعيَّة الثابتة في هذه الرواية تختصُّ بمن كان مثل أبان، فهي لا تشمل الفقهاء الذين لم يبلغوا إلى رتبته، فلا يثبت جواز الرجوع إلى فقهاء الغيبة في مسألة الارتباط بالإمام المهدي (عجَّل الله فرجه).
قلت: هذا لنا وليس علينا، لأننا نقول: إذا لم يجز الرجوع إلى فقهاء الغيبة في تحديد منهج الاعتدال في مسألة الارتباط بالإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) فبالأولويَّة القطعيَّة لا يجوز للعوامِّ أن يحددوا ذلك لأنفسهم، وكلُّ الذي يجوز لهم هو الاعتقاد بأنَّه (عجَّل الله فرجه) إمام زمانهم، لا أكثر.
توضيح ذلك: إنَّ القضية المهدويَّة المترتِّبة على إمامة المهدي (عجَّل الله فرجه) هي عبارة عن منظومة واسعة ومتشعِّبة رسمتها النصوص الواصلة إلينا من الكتاب العزيز وروايات المعصومين (عليهم السلام)، ومن هذه النصوص ما وقع محلّاً للكلام والخلاف بين أعلام الطائفة، وما زالت البحوث مستمرَّة في ذلك حتى هذه اللحظة، وتارة يقع الكلام من جهة أسانيدها، وأخرى من جهة دلالاتها ومضامينها، ومن نافلة القول: أنَّ العوامَّ ليس لهم القدرة على الخوض في ذلك بالمرَّة، وعليه تنحصر القدرة على ذلك في الفقهاء، فلو قيل بعدم جواز رجوع العوامِّ إليهم في تحديد منهج الاعتدال - رغم قدرتهم على استخراجه من النصوص المهدويَّة - فبالأولى لا يجوز للعوامِّ أن يحدِّدوا ذلك لأنفسهم.
الصِّنف الثاني: الروايات المختصَّة بزمان الغيبة الكبرى تحديداً، من قبيل: ما رواه إسحاق بن يعقوب، قال: سألت محمد بن عثمان العمريَّ أن يوصل لي كتاباً قد سألت فيه عن مسائل أشكلت عليَّ، فورد التوقيعُ بخطِّ مولانا صاحب الزمان (عجَّل الله فرجه) - ومن جملة ما جاء فيه قوله (عجَّل الله فرجه) -: «وأمَّا الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا، فإنَّهم حُجَّتي عليكم، وأنا حجة الله عليهم»(٥).
فالإمام (عجَّل الله فرجه) في هذا النصِّ ينصب رُوَاةَ حديثهم (عليهم السلام) حُجَّةً يحتجُّ بهم علينا غداً لو لم نأخذ بما يقولون فيما ينوبنا من الحوادث النازلة، والتي نريد معرفة حكمها.
والمقصود برواة الحديث هم خصوص الفقهاء، لا مطلق الرُّوَاة، والدليل على ذلك وجهان:
الوجه الأوَّل: إنَّ كثيراً من الرُّواة مجرَّد ناقلين للروايات ولا يفقهون ما يروونه، كما أرشد إلى ذلك نبيُّنا الأكرم (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فيما رواه عنه إمامنا الصادق (عليه السلام) من قوله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في حديث طويل: «نَضَّرَ اللهُ عَبدَاً سَمِعَ مَقَالَتِي فوَعَاهَا، وحَفِظَهَا، وبَلَّغها مَن لم يَسمَعهَا، فرُبَّ حَامِلِ فِقهٍ غَيرُ فَقِيهٍ ورُبَّ حَامِلِ فِقهٍ إلى مَن هُوَ أَفقَهُ مِنهُ»(٦).
ومع عدم فقه الرَّاوي لما يرويه كيف يجوز للعوامِّ الرجوع إليه وهو لا يزيد عليهم في شيءٍ من هذه الناحية، وكيف يجوز له أن يفتيهم؟!
وبعبارة أخرى: أنَّ كثيراً من تعاليم الإسلام - سواء في العقيدة أم الأخلاق أم الأحكام - تفتقر إلى عمليَّة استنباط، أو قل: تطبيق عمومات النصوص ومطلقاتها على مواردها، ومن لا يفقه ما يرويه كيف له لو سئل عن مسألةٍ ما أن يعرف النصَّ الذي ينطبق عليها، والحال إنَّ القدرة على التطبيق هي عين الفقه، وقد فرضناه فاقداً لهذه الملكة؟.
فتعيَّن أن يرجع العوام من الرُّواة وغيرهم إلى فقهاء الرُّواة، وهذا ما كان يصنعه أصحاب الأئمة (عليهم السلام) أيضاً عندما يختلفون بينهم، كما أشار إلى ذلك الكشي في حقِّ زرارة وآخرين، قال: «أجمعت العصابة على تصديق هؤلاء الأوَّلين من أصحاب أبي جعفر (عليه السلام) وأبي عبد الله (عليه السلام) وانقادوا لهم بالفقه، فقالوا: أفقه الأوَّلين ستةٌ: زرارة، ومعروف بن خربوذ، وبريد، وأبو بصير الأسدي، والفضيل بن يسار، ومحمد بن مسلم الطائفي. قالوا: وأفقه الستة زرارة»(٧).
فلاحظ قوله: «وانقادوا لهم بالفقه» فإنَّه ظاهر في أنَّ الأصحاب - ومنهم الرُّواة - إذا اختلفوا في مسألة ما كانوا يرجعون إلى هؤلاء الستَّة وينقادون ويسلِّمون لقولهم في تلك المسألة، وما ذلك إلّا لفقاهتهم بل وأفقهيَّتهم على غيرهم، بحيث باتوا مراجع للفقهاء الذين دونهم في الرتبة، مع ما فيه من ثبوت مرجعيَّتهم في زمان الإمامين الهُمامين الصادِقَينِ (عليهما السلام).
فتعيَّن انحصار المرجعيَّة في الرُّواة الفقهاء في زمان الغيبة بالأولويَّة القطعيَّة، بل في خصوص الأفقه منهم، وهو من يعبَّر عنه اليوم بالأعلم.
الوجه الثاني: مقبولة عمر بن حنظلة التي نكتفي بنقلها من دون شرح، لوضوح دلالتها على انحصار الرُّواة الذين نصبهم الإمام (عجَّل الله فرجه) حُجَّةً علينا بالرُّوَاةِ الفقهاء، ولا يشمل الرُّوَاة غير الفقهاء.
وإليكَ نصَّ المقبولة:
قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن رجلين من أصحابنا بينهما مُنَازَعَةٌ في دَينٍ أو مِيرَاثٍ، فتَحَاكَمَا إلى السُّلطانِ وإلى القُضَاةِ، أَيَحِلُّ ذلك؟ قال: «مَن تَحَاكَمَ إليهم في حقٍّ أو باطلٍ فإنَّما تحاكم إلى الطاغوت، وما يَحكُمُ له فإنَّما يَأخُذُ سُحتَاً وإن كان حقّاً ثابتاً له، لأَنَّه أخذه بحكم الطاغوت، وقد أمر الله أن يُكفر به، قال الله تعالى: ﴿يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَن يَكْفُرُوا بِهِ﴾ [النساء: ٦٠]»، قلت: فكيف يصنعان؟ قال: «يَنظُرَانِ مَن كان منكم ممَّن قد رَوَى حديثنا، ونَظَرَ في حَلَالِنا وحَرَامِنا، وعَرَفَ أَحكامَنا، فَلْيَرْضَوا به حَكَمَاً، فإنِّي قد جعلتُهُ عليكم حَاكِماً، فإذا حَكَمَ بحُكمِنَا فلَمْ يَقبَلهُ منه فإنَّما استَخَفَّ بحُكمِ الله وعَلَينَا رَدَّ، والرَّادُّ عَلَينَا الرَّادُّ على الله، وهو على حَدِّ الشِّركِ بالله»، قلت: فإن كان كلُّ رجلٍ اختار رجلاً من أصحابنا فرضيا أن يكونا الناظرين في حَقِّهما، واختلفا فيما حَكَمَا، وكلاهما اختلفا في حديثكم؟ قال: «الحُكمُ ما حَكَمَ به أَعدَلُهُمُا وأَفقَهُهُما وأَصدَقُهُمَا في الحديث وأَورَعُهُمَا، ولا يُلتَفَتْ إلى ما يحكم به الآخرُ»، قال: قلت: فإنَّهما عَدلَانِ مَرضِيَّانِ عند أصحابنا، لا يَفضُلُ واحدٌ منهما على الآخر، قال: فقال: «يُنظَرُ إلى ما كان من روايتهم عنَّا في ذلك الذي حَكَمَا به المجمعُ عليه من أصحابك فيؤخذ به من حُكمنا، ويُتركُ الشَّاذُّ الذي ليس بمشهور عند أصحابك، فإنَّ المجمع عليه لا ريب فيه، وإنَّما الأمور ثلاثة: أَمرٌ بَيِّنٌ رُشدُهُ فيُتَّبَعُ، وأَمرٌ بَيِّنٌ غَيُّهُ فيُجتَنَبُ، وأَمرٌ مُشكِلٌ يُرَدُّ عِلمُهُ إلى الله وإلى رسوله، قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): حَلَالٌ بَيِّنٌ، وحَرَامٌ بَيِّنٌ، وشُبُهَاتٌ بَيْنَ ذلك، فمَنْ تَرَكَ الشُّبُهَاتِ نَجَا مِنَ المُحَرَّمَاتِ، ومَنْ أَخَذَ بالشُّبُهَاتِ ارتَكَبَ المُحَرَّمَاتِ، وهَلَكَ مِن حَيثُ لا يَعلَمُ»، قلت: فإن كان الخَبَرَانِ عنكما مَشهُورَينِ قد رواهما الثِّقاتُ عنكم؟ قال: «يُنظَرُ، فما وَافَقَ حُكمُهُ حُكْمَ الكِتابِ والسُّنَّةِ وخَالَفَ العَامَّةَ فيُؤخَذْ بِهِ، ويُترَكُ ما خَالَفَ حُكمُهُ حُكمَ الكِتابِ والسُّنَّةِ ووَافَقَ العَامَّةَ»، قلت: جُعِلتُ فداك؛ أرأيتَ إن كان الفَقِيهَانِ عَرَفَا حُكمَهُ من الكتاب والسُّنةِ، ووجدنا أَحَدَ الخَبَرَينِ مُوافقاً للعامَّة، والآخرَ مخالفاً لهم، بأيِّ الخبرين يُؤخذ؟ قال: «مَا خَالَفَ العَامَّةَ ففيه الرَّشادُ»، فقلت: جُعِلتُ فداك؛ فإن وَافَقَهُمَا الخَبَرَانِ جَميعاً؟ قال: «يُنظَرُ إلى مَا هُمْ إلَيْهِ أَميَلُ حُكَّامُهُمْ وقُضَاتُهُمْ، فيُترَكُ ويُؤخَذُ بالآخَرِ»، قلت: فإن وَافَقَ حُكَّامُهُم الخبرينِ جميعاً؟ قال: «إذا كان ذلك فأَرجِهِ حَتَّى تَلقَى إمامَكَ، فإنَّ الوُقُوفَ عند الشُّبُهَاتِ خَيرٌ مِنَ الاقتِحَامِ في الهَلَكَاتِ»(٨).
إنَّ كلَّ فقرةٍ من فقرات هذه المقبولة تنادي بأعلى صوتها بأنَّ عالم الحديث بحرٌ عميق، وواد سحيق، وطريقٌ وَعرٌ يحتاج إلى تفرُّغٍ ودراسةٍ وتدقيق، وهو في وادٍ والعوامُّ في وادٍ آخر حتى لو كانوا من الرُّواة، فانحصر الرُّواةُ المنصَّبون من قبل الإمام (عجَّل الله فرجه) حُجَّةً علينا بخصوص الفقهاء منهم.
الدليل الثالث: حكم العقل القطعي:
أمَّا دليل العقل القطعي فيتمُّ برسم نقاطٍ سبعٍ:
١ - إنَّ عدم الاتصال بالإمام (عجَّل الله فرجه) مطلقاً - مباشرةً وبواسطةٍ - إمَّا أن يكون من دون بديلٍ، أو مع وجود البديل.
والفرض الأوَّل باطل جزماً، لأنَّه يقتضي ترك العباد في زمن الغيبة الكبرى سُدًى من دون هداية، ومن دون إقامة الحجَّةٍ عليهم، بل تكون الحجَّة لهم على الله تعالى، وهو يتنافى مع صريح النصوص، من قبيل: قوله تعالى: ﴿قُلْ فَلِلَّهِ الحُجَّةُ البَالِغَةُ﴾ (الأنعام: ١٤٩)، وقوله (عزَّ وجلَّ): ﴿رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ﴾ (النساء: ١٦٥).
وبعد بطلان الفرض الأوَّل يتعيَّن الفرض الثاني، أعني وجود البديل.
٢ - إنَّ البديل في زمان الغيبة ينحصر بمصادر التشريع الأربعة: الكتاب العزيز، روايات المعصومين (عليهم السلام)، والإجماع، والعقل القطعيِّ.
٣ - إنَّ معظم تعاليم الشرع منحصرة في الكتاب، وروايات العترة.
٤ - إنَّ استخراج تلك التعاليم للسير على ضوئها يتوقَّف في معظمها على عمليَّة الاستنباط، فإنَّ الواضحات من التعاليم هي أقلُّ القليل.
٥ - إنَّ القدرة على الاستنباط منحصرة بصنفٍ خاصٍّ من الناس، وهم الفقهاء، وبالتالي لا يمكن السير على ضوء التعاليم ما لم يتمَّ استنباطها أوَّلاً من قِبَل الفقهاء.
٦ - إنَّ الفقاهة وحدها لا تكفي لإحراز السير على ضوء تلك التعاليم ما لم يُحرز استقامة الفقيه وعدم تعمُّده تحريفها وتزويرها، فتوجَّب أن يكون الفقيه قد بلغ من العدالة مرتبة يستحيل معها في العادة أن يتَّبع هواه، لئلا يَضِلَّ ويُضِلَّ غيره والعياذ بالله، وهذا يعني أنَّ المرجعيَّة في المسائل الاستنباطيَّة منحصرة في زماننا هذا بالفقهاء العدول حتى في الفروع التي يجوز للمكلِّف مخالفتها كاستحباب تقليم الأظفار في وقتٍ معيَّنٍ.
٧ - إنَّ انحصار المرجعيَّة بالفقهاء العدول حتى في مثل استحباب تقليم الأظفار يدلُّ بالأولويَّة القطعيَّة على الانحصار المذكور في المسائل العقديَّة التي تنحصر أدلَّتها بالنصوص، كالتي تتعلَّق بمنهج الارتباط بالإمام المهدي (عجَّل الله فرجه).
هذا حاصل الدليل الثالث، وبالفراغ منه نكون قد فرغنا من الاستدلال على انحصار المرجعيَّة في المسائل الدينيَّة الاجتهاديَّة في زمن الغيبة الكبرى بالفقهاء.
والنتيجة: إنَّ منهج الاعتدال الذي رسمته لنا الشريعة في كلِّ مسألة تقع في طريق ابتلائنا في هذا الزمن - ومنها مسألة الارتباط بالمهديِّ (عجَّل الله فرجه) - هو منهج الفقهاء العدول.
والحاصل: إنَّ منهج الاعتدال في مسألة الارتباط بالإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) هو منهج الفقهاء العدول، لأنَّهم الأَدِلَّاءُ على نهج أهل البيت (عليهم السلام) في زمن الغيبة الكبرى، ونهجهم (عليهم السلام) هو عين نهج المهديِّ (عجَّل الله فرجه)، فينتج أنَّ الارتباط به (عجَّل الله فرجه) يتحقَّق من خلال الارتباط بمنهج الفقهاء العدول.
ويمكن التعبير عن هذا المنهج بعبارة وجيزة في ألفاظها غزيرة في مضمونها فنقول: إن منهج الاعتدال هو أن نعمل بتكاليفنا الشرعيَّة مع انتظار إمام زماننا والدعاء له بالفرج.
ومعلوم أنَّ العمل بالتكاليف متوقِّفٌ على تعلُّمها، وتعلُّمها متوقِّفٌ على الرجوع إلى الفقيه العادل الجامع لشرائط الفتوى، فيكون العمل بالتكاليف متوقِّفاً على الرجوع إلى الفقيه العادل، وبالتالي نستطيع القول بأنَّ منهج الاعتدال يتمثَّل في الرجوع إلى الفقيه العادل.
ويتفرَّع على هذا: أنَّ كلَّ ما خرج عن منهج الفقهاء فهو خارج عن منهج الاعتدال، وداخل في منهج الإفراط أو منهج التفريط، والعياذ بالله.
حدود منهج الإفراط:
أمَّا منهج الإفراط فكما لو قضى أحدنا عمره في البحث عن سبيل للوصول إلى شخص الإمام (عجَّل الله فرجه) بطرق وأعمال ما أنزل الله بها من سلطان، ولا جاء بها أثر من أهل البيت (عليهم السلام)، بل المستفاد من بعض الروايات ترك ذلك، ومنه ما جاء في آخر التوقيع المتقدِّم من قوله (عجَّل الله فرجه): «وأمَّا وجه الانتفاع بي في غيبتي فكالانتفاع بالشمس إذا غيَّبتها عن الأبصار السحاب، وإنّي لأمانٌ لأهل الأرض، كما أنَّ النجوم أمانٌ لأهل السَّماء، فأغلقوا باب السؤال عمَّا لا يعنيكم، ولا تتكلَّفوا علم ما قد كُفِيتم، وأكثروا الدُّعاء بتعجيل الفرج، فإنَّ ذلك فرجكم، والسلام عليك يا إسحاق بن يعقوب وعلى بن اتّبع الهدى».
ونظيره الروايات الأخرى الآمرة بانتظار الفرج، وبيان ثوابه وثواب الثابت على القول بوجوده (عجَّل الله فرجه)، مضافاً إلى الروايات الآمرة بالكفِّ عن البحث والطلب، والمؤيَّدة ببعض قصص الأولياء التي تضمَّنت هذا المعنى.
وبعبارة أخرى: إنَّنا - نحن الإماميَّة - نعتقد جازمين أن المعصوم (عليه السلام) أدرى بالمصلحة منَّا، فلو كان من المصلحة أن يتَّصل به أحدنا وجهاً لوجهٍ أو بواسطةٍ فسوف يقوم (عليه السلام) هو بذلك، من دون حاجة إلى سعيٍ منَّا وبحث وتفتيش، وبدون اللجوء إلى اختراع عبادات وأعمال لا يؤمَن اندراجها في خانة البدع، فضلاً عن احتمال حصول الاستدراج من الله تعالى للمبتدع، فيورثه لذَّة كبيرة يستشعرها عند التعاطي مع بدعته، إمعاناً في إضلاله باستحقاق كما دلَّت عليه بعض الروايات، ويكون حينئذٍ من مصاديق قوله تعالى: ﴿وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ﴾ (البقرة: ١٥)، بل ورد في بعض قصص اللقاء نوع من التوبيخ أو الفشل في الاختبار والعياذ بالله.
حدود منهج التفريط:
وأمَّا منهج التفريط فهو منهج التقصير، ومن مصاديقه عدم إعطاء مسألة الارتباط بالإمام (عجَّل الله فرجه) أهميةً في حياتنا لا سمح الله، كالذين لا يأبهون بالعقيدة المهدوية أصلاً، ولا يعيشون حقيقة أنَّ إمام عصرهم هو الحجَّة بن الحسن (عجَّل الله فرجه)، وأنَّ حجَّة الله على عباده في هذا الزمان وأمينه في أرضه هو الإمام المهديُّ (عجَّل الله فرجه) كما كان كلُّ واحدٍ من آبائه (عليهم السلام) في زمانه حجَّة الله على عباده، وأمينه في أرضه.
ولا يعيشون أيضاً حقيقة أنَّه (عجَّل الله فرجه) مُطَّلع على أقوالهم وأفعالهم، وأنَّها تعرض عليه (عجَّل الله فرجه)، فيسرُّهُ ما يراه من حسناتهم، ويَسُوؤُهُ ما ربما يراه من سيِّئاتهم.
ولا يعيشون أيضاً حقيقة كون شيعته تحت رعايته ونظره (عجَّل الله فرجه)، وأنَّه الموئل والمفزع لهم فيما ينوبهم من نوائب وحوادث، وأنَّ من الجدير بهم أن يفزعوا إليه ليسأل الله تعالى لهم في كشف ضُرِّهم، مع الاعتقاد الجازم بأنه (عجَّل الله فرجه) مستجاب الدعوة، إلى غير ذلك ممَّا يترتَّب على الاعتقاد بإمامته (عجَّل الله فرجه) وكونه إمام عصرنا هذا، وأن يحذر المؤمن أن يموت ميتة جاهلية، كما وقع ذلك لبعض من خذلهم الله تعالى، حيث صاروا يعتقدون أن الإمام المهديَّ (عجَّل الله فرجه) لم يولد بعدُ، كعقيدة مشهور المخالفين لأهل البيت (عليهم السلام)، فوقعوا في محذور العقيدة بعدم وجود إمام في هذا الزمان، ومقتضاه أن من يموت منهم على هذا الحال فسوف يموت ميتة جاهليَّة، لما تواتر عن المعصومين (عليهم السلام) أنَّه: «من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهليَّة»(٩).
هذا، ونسأله تعالى كما علَّمنا في محكم كتابه ونقول: ﴿رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنتَ الوَهَّابُ﴾ (آل عمران: ٨).
معالم منهج الاعتدال:
كما أنَّ لمنهج الاعتدال حدوداً تُعرفُ بها حقيقته وتميّزه عن منهجي الإفراط والتفريط، كذلك له معالم يُعرف باجتماعها أتباع هذا المنهج، ويُميَّزون بها عن أتباع منهج الإفراط وأتباع منهج التفريط.
ويمكننا أن نجمل المعالم في اثني عشر مَعلَماً:
المعلم الأول: أن نعيش الاعتقاد بأنَّ الإمام (عجَّل الله فرجه) حيٌّ يُرزق:
إنَّ الاعتقاد بوجود الإمام الحجَّة (عجَّل الله فرجه) حَيّاً يُرزقُ شيءٌ، وأن نعيش هذه العقيدة شيءٌ آخر، بمعنى أن نستحضر ذلك في أذهاننا بشكل متكرِّر، فإنَّ مقتضى حياته (عجَّل الله فرجه) وتواجده يزيد من احتمال لقائنا به (عجَّل الله فرجه) هنا أو هناك، اليوم أو غداً، من حيث نشعر أو لا نشعر.
وهذا في مقابل أتْباع منهج التقصير، والذين لا يستذكرون هذه العقيدة إلَّا إذا ذُكِّروا بها، فهم يعيشون الغفلة عنها.
وفي مقابل أتباع منهج الإفراط، والذين ربما يسعون ويخترعون ويبتدعون أعمالاً لم ترد من طريق الشرع بغية اللِّقاء بالإمام (عجَّل الله فرجه)، وربما يصلون إلى حدِّ الوسوسة والتخيّلات، فيعتقد أحدهم أحياناً أنَّه قد رأى الإمام (عجَّل الله فرجه) وهو لم يره، وإنَّما رأى رجلاً صالحاً ووَلِيّاً من أولياء الله تعالى، نظير بعض قصص اللقاء التي يعتقد أصحابها أنهم التقوا فيها بالإمام الحجة (عجَّل الله فرجه)، ولا يطيقون سماع الخلاف في ذلك، كما لو التقوا شخصاً عليه سيماء الصالحين، وأخبرهم بأمرٍ يعتقدون أنَّه غيبيٍّ، وهو ليس كذلك.
المعلم الثاني: الثبات على القول بوجوده وحياته (عجَّل الله فرجه):
إنَّ الاعتقاد بوجود المهدي (عجَّل الله فرجه) حيّاً يُرزق تارة يكون اعتقاداً راسخاً لا يزول، وأخرى لا يكون كذلك، كما لو سرى الشكُّ إلى الاعتقاد بأصل ولادته (عجَّل الله فرجه)، كما حصل لأحدهم وصار يعتقد فيه اعتقاد مشهور المخالفين من أنَّ المهدي (عجَّل الله فرجه) سوف يولد في آخر الزمان، وكما لو سرى الشكُّ إلى الاعتقاد ببقائه، كما حدَّثتنا الروايات المعصومية عن جماعة من الشيعة سيطول عليهم الأمد حتى يرجعوا عن هذه العقيدة، ويشكُّون في موته وعدم بقائه، كما في رواية المفضَّل بن عمر، قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: «إيَّاكم والتنويه، أما والله ليغيبنَّ إمامكم سنيناً من دهركم، ولتُمحَّصُنَّ حتى يقال: مات، قُتل، هلك، بأيِّ وادٍ سلك؟ ولَتَدمَعَنَّ عليه عيون المؤمنين، ولَتُكفَأُنَّ كما تُكفَأُ السُّفُنُ في أمواج البحر، فلا ينجو إلَّا من أخذ الله ميثاقه، وكتب في قلبه الإيمان، وأيَّده بروحٍ منه، ولَتُرفَعَنَّ اثنتا عشرة راية مشتبهةً، لا يُدرى أيٌّ من أيٍّ»، قال: فبكيت، ثم قلت: فكيف نصنع؟ قال: فنظر إلى شمسٍ داخلةٍ في الصُّفَّة، فقال: «يا أبا عبد الله؛ ترى هذه الشمس؟»، قلت: نعم، فقال: «والله لَأمرُنا أبينُ من هذه الشمس»(١٠).
وفي مقابل هذين الفريقين الشَّاكَّين فريقٌ ثابتٌ على الاعتقاد ببقائه (عجَّل الله فرجه)، لا يزحزح اعتقادهم بذلك شيءٌ، كما أشير إليهم في رواية أحمد بن إسحاق بن سعد الأشعريّ، قال: دخلت على أبي محمّد الحسن بن عليٍّ (عليهما السلام) وأنا أريد أن أسأله عن الخلف [من] بعده، فقال لي مبتدِئاً: «يا أحمد بن إسحاق؛ إنَّ الله تبارك وتعالى لم يُخل الأرض منذ خلق آدم (عليه السلام)، ولا يخليها إلى أن تقوم الساعة من حجّة لله على خلقه، به يُدفع البلاء عن أهل الأرض، وبه يُنزِّل الغيث، وبه يُخرج بركات الارض». قال: فقلت له: يا بن رسول الله؛ فمن الإمام والخليفة بعدك؟ فنهض (عليه السلام) مسرعاً فدخل البيت، ثمّ خرج وعلى عاتقه غلامٌ كأنَّ وجهَهُ القمرُ ليلة البدر، من أبناء الثلاث سنين، فقال: «يا أحمد بن إسحاق؛ لو لا كرامتُك على الله (عزَّ وجلَّ) وعلى حُجَجِهِ ما عرضتُ عليك ابني هذا، إنَّه سَمِيُّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وكَنِيُّهُ الّذي يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت جوراً وظلماً، يا أحمد بن إسحاق؛ مثله في هذه الاُمّة مثل الخضر (عليه السلام)، ومثله مثل ذي القرنين، والله لَيَغِيبنَّ غيبةً لا ينجو فيها من الهلكة إلّا من ثبَّته الله (عزَّ وجلَّ) على القول بإمامته، وفّقه [فيها] للدُّعاء بتعجيل فرجه»، فقال أحمد بن إسحاق: فقلت له: يا مولاي؛ فهل من علامةٍ يطمئنُّ إليها قلبي؟ فنطق الغلام (عليه السلام) بلسان عربيٍّ فصيح فقال: «أنا بقيَّةُ الله في أرضه، والمنتقم من أعدائه، فلا تطلب أثراً بعد عين يا أحمد بن إسحاق»، فقال أحمد بن إسحاق: فخرجت مسروراً فرحاً، فلمَّا كان من الغد عُدتُ إليه فقلت له: يا بن رسول الله؛ لقد عظم سروري بما مننت [به] عليَّ، فما السُّنَّةُ الجارية فيه من الخضر وذي القرنين؟ فقال: «طول الغيبة يا أحمد»، قلت: يا بن رسول الله؛ وإنَّ غيبته لتطول؟ قال: «إي وربّي حتّى يرجع عن هذا الأمر أكثر القائلين به، ولا يبقى إلّا من أخذ الله (عزَّ وجلَّ) عهده لولايتنا، وكتب في قلبه الإيمان، وأيّده بروح منه، يا أحمد بن إسحاق؛ هذا أمرٌ من أمر الله، وسرٌّ من سرِّ الله، وغيب من غيب الله، فخذ ما آتيتك واكتمه وكن من الشاكرين تكن معنا غداً في علّييّن»(١١).
المعلم الثالث: أن نعيش الاعتقاد بأنَّه (عجَّل الله فرجه) هادينا في الدنيا:
إنَّ الاعتقاد بإمامة المهدي (عجَّل الله فرجه) وإن كان يُصنِّفنا ضمن الإماميَّة الاثني عشريَّة لكنَّه لا يزيد على اعتقاد الشيعي الذي كان في عصر الصادق (عليه السلام) ويعتقد بإمامته، لكنَّه لا يعيش هذه العقيدة، بمعنى الالتفات إلى كونه الإمام الفعليَّ لهذه الأمَّة وهاديها في زمانه، وكذلك الاعتقاد بإمامة الحجة (عجَّل الله فرجه) وكونه هو الهادي في زماننا هذا حتى لو كان غائباً، لقوله تعالى: ﴿إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ﴾ (الرعد: ٧).
وأمَّا كيف يهدينا رغم غيبته فذاك بحثٌ آخر لا علاقة له بأصل الالتفات إلى ذلك والتعايش معه.
وللتعايش مع هذه الحقيقة أثر بليغ في حياة المؤمن ليس هذا محلَّ شرحه وتوضيحه.
المعلم الرابع: أن نعيش الاعتقاد بأنَّه (عجَّل الله فرجه) إمامنا في الآخرة كما هو إمامنا في الدنيا:
إنَّ الاعتقاد بإمامة المهدي (عجَّل الله فرجه) إنَّما هو اعتقاد بإمامته في الدنيا، ولكن ينبغي الالتفات إلى أنَّ الذي يأتَمُّ به الإنسان في دنياه هو بعينه سيكون إمامه في الآخرة، لقوله سبحانه: ﴿يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولَئِكَ يَقْرَءُونَ كِتَابَهُمْ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا﴾ (الإسراء: ٧١).
فينبغي للمؤمن الاثني عشري أن يعيش هذه العقيدة أيضاً، ويتصوَّر أنَّه يُدعى يوم القيامة باسم الإمام الثاني عشر (عجَّل الله فرجه)، فيقال مثلاً: أين شيعة المهدي؟ فيقوم بكلٍّ اعتزازٍ وفخرٍ من بين المحشر ويلتحق بالحجَّة بن الحسن صلوات الله عليه وعلى آبائه الطاهرين، في مقابل من يُدعون باسم فلانٍ وفلانٍ من الكفَّار والمشركين والمنافقين وأعداء آل محمد (صلّى الله عليه وآله وسلّم).
المعلم الخامس: أن نعيش الاعتقاد بحاجتنا بل وحاجة العالم كلِّه إلى وجوده (عجَّل الله فرجه):
لقد دلَّت جملة من النصوص على أنَّ وجود أهل البيت (عليهم السلام) هو أمان لأهل الأرض، كما جاء في آخر التوقيع المتقدِّم من قوله (عجَّل الله فرجه): «وأمَّا وجه الانتفاع بي في غيبتي فكالانتفاع بالشمس إذا غيَّبتها عن الأبصار السحاب، وإنّي لأمانٌ لأهل الأرض، كما أنَّ النجوم أمانٌ لأهل السَّماء»، وكما في الروايات التي دلَّت على أنَّ بقاء الأرض واستمرار الحياة إنَّما هو ببركة وجود الأئمَّة (عليهم السلام)، كما في رواية أبي حمزة الثمالي، قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): تبقى الأرض بغير إمام؟ قال: «لو بقيت الأرض بغير إمام لساخت»(١٢).
ومن هنا يتَّضح: أنَّ وجود الإمام الحجَّة (عجَّل الله فرجه) لا يرتبط بموضوع الهداية فحسب، أعني لا تنحصر فائدة وجوده (عجَّل الله فرجه) بالجانب التشريعي، فكما يجاب على السؤال عن فائدة وجوده (عجَّل الله فرجه) في غيبته: بأنَّ ممارسته (عجَّل الله فرجه) لدوره في الهداية لا يتوقَّف على الظهور للناس، إذ بمقدوره أن ينبِّه على كلِّ ما يريد بطريقته الخاصَّة، وبديهيٌّ أنَّ جهلنا بماهية هذه الطريقة لا يضرُّ بوجودها، إنَّه كما يجاب بهذا كذلك يجاب: بأنَّ من فوائد وجوده المبارك استمرارَ الحياة على الأرض وبقاء الدنيا، إذ لو رفعه الله إليه لساخت الأرض بأهلها.
ومن يعش منَّا هذه الحقيقة مكرَّراً يعش الالتفات إلى أنَّ بقاءه في هذه الدنيا ورزقه ومعيشته كلَّها ببركة ذلك الوجود المقدَّس، ولولاه لم نكن اليوم نكتب هذه السطور أو نقرأها، ويا لها من ثمرة مباركة يعجز اللسان عن وصفها.
المعلم السادس: أن نعيش الاعتقاد بشهادته (عجَّل الله فرجه) على أعمالنا وعرضها عليه:
إنَّ من عقيدتنا - نحن الإماميَّةَ الاثني عشريَّة - أنَّ الأئمَّة (عليهم السلام) يشهدون على أعمال العباد، كما دلَّت عليه جملة من النصوص، من قبيل: ما رواه سماعة، قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام) في قول الله (عزَّ وجلَّ): ﴿فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا﴾ (النساء: ٤١)، قال: «نزلت في أمَّة محمد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) خاصّةً، في كُلِّ قَرنٍ منهم إمامٌ مِنَّا شَاهِدٌ عليهم، ومحمدٌ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) شَاهِدٌ علينا»(١٣)، وما رواه بريد العجلي، قال: قلت لأبي جعفر (عليه السلام): قول الله تبارك وتعالى: ﴿وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً﴾ (البقرة: ١٤٣)، قال: «نحن الأمَّة الوسط، ونحن شهداء الله تبارك وتعالى على خلقه، وحججه في أرضه»(١٤).
كما إنَّ من عقيدتنا عرضَ أعمال العباد على الأئمَّة (عليهم السلام)، وقد وردت بذلك النصوص عنهم (عليهم السلام)، من قبيل: ما رواه يعقوب بن شعيب، قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قول الله (عزَّ وجلَّ): ﴿اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالمُؤْمِنُونَ﴾ (التوبة: ١٠٥)، قال: «هم الأئمة»(١٥)، وما رواه سماعة، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: سمعته يقول: «مَا لَكُمْ تَسُوؤُنَ رَسُولَ الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)؟»، فقال رجلٌ: كيف نَسُوؤُهُ؟! فقال: «أما تعلمون أنَّ أعمالكم تُعرض عليه، فإذا رأى فيها معصيةً سَاءَهُ ذلك؟ فلا تَسُوؤُوا رسولَ الله، وسُرُّوهُ»(١٦)، وما رواه عبد الله بن أبان الزَّيَّات، وكان مَكِيناً عند الرضا (عليه السلام)، قال: قلت للرضا (عليه السلام): أُدعُ اللهَ لي ولأهل بيتي، فقال: «أَوَلَستُ أفعل؟، والله إنَّ أعمالكم لتُعرض عليَّ في كلِّ يومٍ وليلةٍ»(١٧).
ولا شكَّ أنَّ اعتقاد المؤمن بأنَّ أعماله تُعرض على إمامه (عجَّل الله فرجه) لا بدَّ أن ينعكس إيجاباً على سلوكه، لكن هذا الانعكاس ربما يتعرَّض لحالة من الغيبة تارة، والظهور أخرى، لأنَّ العقيدة وحدها ومن دون أن تكون حاضرة في ذهن وقلب المعتقد باستمرار لا تكفل دوام انعكاسها على سلوكه.
المعلم السابع: أن نعيش الاعتقاد برعايته (عجَّل الله فرجه) لنا:
إنَّ رعاية الأئمة (عليهم السلام) لشيعتهم أمرٌ يقتضيه الطبع ولا ينبغي لعاقل أن يشكَّ فيه، لا سيما مع اطِّلاعهم على أحوالهم كما دلَّت عليه النصوص المتقدِّمة في المعلم السابق، لا سيما الحديث الرَّضوي.
ونضيف هنا ثلاث روايات في هذا المجال:
١ - ما رواه أبو سعيد الخدري، عن رُمَيلَةَ، قال: وَعِكْتُ وَعْكَاً شديداً في زمان أمير المؤمنين (عليه السلام)، فوجدتُ من نفسي خِفَّةً في يوم الجمعة، وقلت لا أعرف شيئاً أفضل من أن أُفيض على نفسي من الماء، وأُصلِّي خلف أمير المؤمنين (عليه السلام)، ففعلتُ، ثمَّ جئتُ إلى المسجد، فلمَّا صعد أمير المؤمنين (عليه السلام) المنبر أعاد عليَّ ذلك الوَعْكُ، فلمَّا انصرف أميرُ المؤمنين (عليه السلام) ودخل القصرَ دخلتُ معه، فقال: «يا رميلة؛ رأيتك وأنت متشبِّكٌ بعضك في بعض»، فقلت: نعم، وقصصتُ عليه القصة التي كنت فيها، والذي حملني على الرغبة في الصلاة خلفه، فقال: «يا رميلة؛ ليس من مؤمن يمرض إلَّا مرضنا بمرضه، ولا يحزن إلَّا حَزِنَّا بحُزنه، ولا يدعو إلَّا أَمَّنا لِدُعائِهِ، ولا يسكت إلَّا دعونا له»، فقلت له: يا أمير المؤمنين؛ جعلني الله فداك؛ هذا لمن معك في القصر، أرأيتَ من كان في أطراف الأرض؟ قال: «يا رميلة؛ ليس يغيب عَنَّا مؤمنٌ في شرق الأرض، ولا في غربها»(١٨).
٢ - ما رواه أبو الربيع الشامي، قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): بلغني عن عمرو بن إسحاق حديثٌ، فقال: «اعرضه»، قال: دخل أمير المؤمنين (عليه السلام) فرأى صُفرةً في وجهه(١٩)، قال: «ما هذه الصُّفرةُ؟»، فذكر وَجَعَاً به، فقال له علي (عليه السلام): «إنَّا لَنَفرَحُ لِفَرَحِكُم، ونَحزَنُ لِحُزنِكُم، ونَمرَضُ لِمَرَضِكُم، ونَدعُو لَكُم، فتَدعُونَ(٢٠) فنُؤَمِّنُ(٢١)»، قال عمرو: قد عرفتُ ما قلتَ، ولكن كيف ندعو فتؤمِّنُ؟ فقال: «إنَّا سَوَاءٌ عَلَينا البَادِي والحَاضِرُ»، فقال أبو عبد الله (عليه السلام): «صدق عمرو»(٢٢).
٣ - ما نقله الطبرسي من نسخة كتاب ورد من الناحية المقدَّسة إلى الشيخ المفيد (قدِّس سرّه)، وجاء فيه: «إنَّا غَيرُ مُهمِلِينَ لِمُرَاعَاتِكُم، ولا نَاسِينَ لِذكْرِكُم، ولَوْلَا ذَلِكَ لَنَزَلَ بِكُمْ اللَّأْوَاءُ(٢٣)، واصْطَلَمَكُم(٢٤) الأَعدَاءُ»(٢٥).
والمؤمن حينما يعيش هذه الحقيقة لا شكَّ أنَّ علاقته بإمامه سوف تشتدُّ أكثر فأكثر، ويعيش حالة العاطفة والمحبَّة بينه وبين إمام زمانه (عجَّل الله فرجه)، ويا لها من حالة عظيمة مقدَّسة لا يقدر قدرها الجاهلون.
المعلم الثامن: أن نعيش الاعتقاد بحتميَّة خروجه وقيامه (عجَّل الله فرجه):
إنَّ الأحاديث الواردة عن النبيِّ الأكرم (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وأهل بيته (عليهم السلام) في حتميَّة ظهور المهديِّ (عجَّل الله فرجه) قد تجاوزت حدَّ التواتر، حتى كان المنكر لظهوره خارجاً عن سلك المؤمنين، ونكتفي في هذا المجال بما رواه عبد الله بن عباس، قال: قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): «إنَّ خلفائي وأوصيائي وحججَ الله على الخلق بعدي اثنا عشر، أوَّلُهم: أخي، وآخرهم: ولدي»، قيل: يا رسول الله؛ ومن أخوك؟ قال: «عليُّ بن أبي طالب»، قيل: فمن ولدك؟ قال: «المهديُّ الذي يملأُها قسطاً وعدلاً كما ملئت جوراً وظلماً، والذي بعثني بالحقِّ نبيّاً؛ لو لم يَبقَ من الدنيا إلَّا يومٌ واحدٌ لَطَوَّلَ اللهُ ذلك اليومَ، حتَّى يخرجَ فيه وَلَدِي المهديُّ، فينزلُ رُوحُ الله عيسى بن مريم فيصلِّي خلفه، وتشرق الأرض بنوره، ويبلغ سلطانه المشرق والمغرب»(٢٦).
بل إنَّ خروجه (عجَّل الله فرجه) ممَّا لا يناله البَدَاءُ، فإنَّ من عقيدة الشيعة القول بالبَدَاءِ، بمعنى تغيير الله تعالى في مقاديره، كما هو صريح قوله عزَّ من قائل: ﴿يَمْحُو اللهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الكِتَابِ﴾ (الرعد: ٣٩)، إلَّا أنَّ قيام الحجَّة (عجَّل الله فرجه) وخروجه هو من الميعاد كما هو صريح قول إمامنا الجواد (عليه السلام) فيما رواه عنه أبو هاشم داود بن القاسم الجعفري، قال: كُنَّا عند أبي جعفر محمد بن علي الرضا (عليهما السلام)، فجرى ذِكرُ السُّفيانيِّ وما جاء في الرواية من أنَّ أمره من المحتوم، فقلت لأبي جعفر: هل يَبدُو لله في المحتوم؟ قال: «نعم»، قلنا له: فنخاف أن يَبدُوَ لله في القائم(٢٧)، فقال: «إنَّ القائم من الميعاد، والله لا يخلف الميعاد»(٢٨).
المعلم التاسع: الكفُّ عن السُّؤال عمَّا لم نكلَّف به من شؤونه (عجَّل الله فرجه):
لقد جاء التصريح في التوقيع المتقدِّم بالكفِّ عن السُّؤال عمَّا ليس هو من تكليفنا فيما يتعلَّق بشؤون الإمام الحجَّة (عجَّل الله فرجه)، حيث قال: «فأغلقوا باب السُّؤالِ عمَّا لا يعنيكم، ولا تتكلَّفوا عِلْمَ ما قد كُفِيتُم».
ومن النصوص الواردة في هذا المجال الدعاء الذي يُدعى به في غيبة القائم (عجَّل الله فرجه)، وهو ما أملاه أبو عمرو محمد بن عثمان العمري (قدِّس سرّه) وكيل الناحية على أبي علي محمد بن همام (رضي الله عنه)، وأمره أن يدعو به، وهو هذا الدعاء: «اللَّهُمَّ عَرِّفنِي نَفسَكَ، فإِنَّكَ إنْ لَم تُعَرِّفنِي نَفسَكَ لَم أَعرِفْ رَسُولَكَ، اللَّهُمَّ عَرِّفنِي رَسُولَكَ فإِنَّكَ إنْ لَم تُعَرِّفنِي رَسُولَكَ لَم أَعرِفْ حُجَّتَكَ، اللَّهُمَّ عَرِّفنِي حُجَّتَكَ، فإِنَّكَ إنْ لَم تُعَرِّفنِي حُجَّتَكَ ضَلَلْتُ عَنْ دِينِي... إلى أن يقول: وثَبِّتنِي عَلَى طَاعَةِ وَلِيِّ أَمرِكَ الَّذِي سَتَرتَهُ عَنْ خَلقِكَ، فَبِإِذنِكَ غَابَ عَنْ بَرِيَّتِكَ، وأَمرَكَ يَنتَظِرُ، وأَنتَ العَالِمُ غَيرُ المُعَلَّمُ بالوَقتِ الَّذِي فِيهِ صَلَاحُ أَمرِ وَلِيِّكَ في الإِذنِ لَهُ بإِظهَارِ أَمرِهِ، وكَشفِ سِرِّهِ، فصَبِّرنِي عَلَى ذَلِكَ، حَتَّى لَا أُحِبَّ تَعجِيلَ مَا أَخَّرتَ، ولَا تَأخِيرَ مَا عَجَّلتَ، ولَا أَكشِفَ مَا سَتَرتَ، ولَا أَبحَثَ عَمَّا كَتَمتَ، ولَا أُنَازِعَكَ في تَدبِيرِكَ، ولَا أَقُولَ لِمْ؟ وكَيفَ؟ ومَا بَالُ وَلِيِّ الأَمرِ لَا يَظهَرُ وقَدْ امتَلَأَت الأَرضُ مِنَ الجَورِ؟ وأُفَوِّضَ أُمُورِي كُلَّهَا إلَيكَ» إلى آخر الدعاء(٢٩).
المعلم العاشر: توطين النفس لمقتضيات ظهوره (عجَّل الله فرجه):
يستفاد من بعض الروايات أنَّ كثيراً من القائلين والمعتقدين بإمامة المهديِّ (عجَّل الله فرجه) سوف يرجعون عن هذا الاعتقاد والعياذ بالله، كما في رواية أحمد بن إسحاق المتقدِّمة في المعلم الثاني عن الحسن العسكري (عليه السلام) عند قوله: قلت: يا بن رسول الله؛ وإنَّ غيبته لتطول؟ قال: «إِيْ ورَبِّي حتَّى يَرجِعَ عن هذا الأَمرِ أَكثَرُ القَائِلِينَ بِهِ، ولَا يَبقَى إلَّا مَنْ أَخَذَ اللهُ (عزَّ وجلَّ) عَهدَهُ لِوِلَايَتِنَا، وكَتَبَ في قَلبِهِ الإِيمَانُ، وأَيَّدَهُ بِرُوحٍ مِنْهُ».
وهذا الحديث قد استثنى من اجتمعت فيه خصال ثلاثٌ:
الأولى: المأخوذ عهده لولاية أهل البيت (عليهم السلام):
والظاهر - والله أعلم - أنَّ المقصود من أخذ العهد: هو أخذه في عالم الميثاق، فمن أقرَّ هناك بإمامتهم (عليهم السلام) لن يرجع عنها في عالم الدنيا.
الثانية: المكتوب في قلبه الإيمان:
والظاهر أنَّ المقصود من الكتب هنا: هو الثبات، كما قال تعالى: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ﴾ (البقرة: ١٨٣)، أي: أُثبِتَ في حَقِّكم، بمعنى: وجب، كما يؤيده ما رواه البزنطي، عن الرضا (عليه السلام)، قال: «إن جعفراً (عليه السلام) كان يقول: ﴿فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ﴾ فالمستقَرُّ ما ثبت من الإيمان، والمُستَودَعُ المُعَارُ، وقد هداكم اللهُ لأمرٍ جهله النَّاس، فاحمدوا الله على ما مَنَّ عليكم به»(٣٠).
الثالثة: المؤيَّدُ بروح من الله تعالى:
وبعد النظر والتأمُّل في معنى الروح الذي وقع فيه اختلاف بين علماء المسلمين فمن القريب أن يكون المراد من الروح الذي يُؤيَّد به من كتب الله في قلبه الإيمان هو روح الإيمان، من قبيل: ما رواه جابر الجعفي، قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): «يا جابر؛ إنَّ الله خلق الناس ثلاثة أصناف، وهو قول الله تعالى: ﴿وَكُنْتُمْ أَزْواجاً ثَلاثَةً * فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ ما أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ * وَأَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ ما أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ * وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ﴾ [الواقعة: ٧-١١]، فالسابقون هو رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وخاصةُ الله من خلقه، جعل فيهم خمسة أرواح، أيَّدهم بروح القدس، فبه بُعثوا أنبياء، وأيَّدهم بروح الإيمان، فبه خافوا الله، وأيَّدهم بروح القوَّة، فبه قَوُوا على طاعة الله، وأيَّدهم بروح الشَّهوة، فبه اشتهوا طاعة الله وكرهوا معصيته، وجعل فيهم روحَ المدرج الذي يذهب به الناس ويجيئون، وجعل في المؤمنين أصحاب الميمنة روح الإيمان، فبه خافوا الله، وجعل فيهم روح القوَّة، فبه قَوُوا على الطاعة من الله، وجعل فيهم روح الشَّهوة فبه اشتهوا طاعة الله، وجعل فيهم روح المدرج التي يذهب الناس به ويجيئون»(٣١). والله أعلم.
وعلى أيَّة حال، فإنَّ توطين النفس على استقبال الظهور المقدَّس والتهيُّؤُ له لا يأتي هكذا اعتباطاً أو بمجرَّد الادِّعاءات الفارغة، بل لا بدَّ من التحلِّي بجملةٍ من الأمور ممَّا يقتضيه الاعتبار، من قبيل:
١ - الورع والتقوى، فإنَّ العاصي يخشى ظهور الإمام (عجَّل الله فرجه) وهو قائم على معاصيه.
٢ - ترك الظلم، فإنَّ الظالم يخشى أن يكون في جملة من يحاسبهم الإمام (عجَّل الله فرجه).
٣ - عدم الركون إلى الظالمين، فمن القريب جدّاً أن يقوم الإمام (عجَّل الله فرجه) بمحاسبة الذين ركنوا إلى الظلمة حتى لو لم يرتكبوا بأنفسهم ظلماً، لأنَّهم كثَّروا السَّواد، وقد قال الله تعالى: ﴿وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِن دُونِ اللهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنصَرُونَ﴾ (هود: ١١٣)، وقال سبحانه: ﴿وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَّا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنكُمْ خَاصَّةً﴾ (الأنفال: ٢٥).
٤ - عدم التعلُّق بالدنيا مهما أمكن، لأنَّ المتعلِّقين بالدنيا يميلون عادةً إلى التخلُّص من الالتزامات والتحرُّر من القيود، فهم بطبيعة الحال ينفرون من كلِّ ما يلزمهم بذلك، ولا سيما قيام دولة الحقِّ والعدل الإلهيّ.
المعلم الحادي عشر: تجسيد الالتزام بمنهج الفقهاء العدول:
قد أشبعنا الكلام فيما تقدَّم حول وجوب الرجوع إلى الفقهاء العدول في زمن الغيبة، وأنَّ منهج الاعتدال في الارتباط بالإمام (عجَّل الله فرجه) يتمثَّل بالتمسُّك بمنهجهم، ولكن لا يكفي مجرَّدُ ادِّعاءِ ذلك في تصنيف المدَّعي في أتباع هذا المنهج ما لم يجسِّده خارجاً، وتجسيده ينحصر بتقليد فقيه عادل مسلَّم الفقاهة والعدالة وفق الموازين المتَّبعة في الحوزة العلميَّة، بأن يكون المرجع الأعلم، أو ممَّن تدور الأعلمية بينه وبين غيره من المراجع، في مقابل من لا يقلِّد فقيهاً بعينه مع كونه عامِّيَاً لم يبلغ رتبة الاجتهاد، ومن يقلِّد أحد أدعياء المرجعيّة ممَّن لم يشهد له بالفقاهة ولا العدالة أحد ممَّن يعتبر قوله في الوسط العلمي، ومن يتبع نهج الانتقائيَّة في التقليد، بأن يأخذ من كلِّ فقيه ما ينسجم مع أهوائه، كنحوٍ من التحلُّل من الالتزام والتحرُّر من القيود، وهو نهج مغاير للتبعيض في التقليد، الذي يجوزه بعض الفقهاء.
المعلم الثاني عشر: أن نعيش انتظاره (عجَّل الله فرجه)، والدعاء له بالفرج، وزيارته:
وهنا مطلبان:
١ - انتظار خروج المهديِّ (عجَّل الله فرجه).
٢ - الدعاءُ له (عجَّل الله فرجه)، وزياراته.
أمَّا المطلب الأول فقد أكَّدت النصوص المعصوميَّة وحثَّت عليه، ومنه ما جاء في آخر التوقيع المتقدِّم من قوله (عجَّل الله فرجه): «وأكثروا الدُّعاء بتعجيل الفرج، فإنَّ ذلك فرجكم»(٣٢)، ونكتفي في هذا المجال بنقل حديثٍ واحدٍ غير التوقيع المذكور، وهو يفي بالغرض الذي قصدناه هنا، مضافاً إلى ما اشتمل عليه من فوائد أخرى جمَّة تَسُرُّ المنتظرين، وهو ما رواه أبو حمزة الثمالي، عن أبي خالد الكابلي، قال: دخلت على سيدي عليِّ بن الحسين زين العابدين (عليهما السلام)، فقلت له: يا بن رسول الله؛ أخبرني بالذين فرض الله (عزَّ وجلَّ) طاعتهم ومودَّتهم، وأوجب على عباده الاقتداء بهم بعد رسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، فقال لي: «يا كنكر(٣٣) إنَّ أُولي الأمر الذين جعلهم الله (عزَّ وجلَّ) أَئِمَّةً للناس وأوجب عليهم طاعتهم: أمير المؤمنين عليُّ بن أبي طالب (عليه السلام)، ثم الحسن ثم الحسين ابنا علي بن أبي طالب، ثم انتهى الأمر إلينا»، ثم سكت، فقلت له: يا سيدي؛ رُوي لنا عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنَّ الأرض لا تخلو من حُجَّةٍ لله (عزَّ وجلَّ) على عباده، فمن الحُجَّةُ والإمام بعدك؟ قال: «ابني محمَّد، واسمه في التوراة باقر، يبقر العلم بقراً، هو الحُجَّة والإمام بعدي، ومن بعد محمد ابنُه جعفر، واسمه عند أهل السماء الصادق»، فقلت له: يا سيدي؛ فكيف صار اسمه الصادق وكُلُّكم صادقون؟ قال: «حدَّثني أبي، عن أبيه (عليهما السلام): أن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قال: إذا وُلِدَ ابني جعفرُ بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب فسَمُّوهُ الصادق، فإنَّ للخامس(٣٤) من ولده ولداً اسمه جعفرٌ، يَدَّعي الإمامة اجتراءً على الله وكذباً عليه، فهو عند الله جعفرٌ الكذَّابُ المفتري على الله (عزَّ وجلَّ)، والمُدَّعِي لما ليس له بأهلٍ، المخالفُ على أبيه، والحاسدُ لأخيه، ذلك الذي يروم كشف ستر الله عند غيبة وَلِيِّ الله (عزَّ وجلَّ)»، ثم بكي علي بن الحسين (عليهما السلام) بكاءً شديداً، ثم قال: «كَأنِّي بجعفر الكذَّاب وقد حمل طاغيةَ زمانه على تفتيش أَمرِ وَلِيِّ الله، والمُغيَّبِ في حفظ الله، والتوكيل بحرم أبيه جهلاً منه بولادته، وحرصاً منه على قتله إن ظفر به طمعاً في ميراثه حتى يأخذه بغير حَقِّهِ». قال أبو خالد: فقلت له: يا بن رسول الله؛ وإنَّ ذلك لَكَائِنٌ؟ فقال: «إي ورَبِّي إنَّ ذلك لمكتوبٌ عندنا في الصحيفة التي فيها ذكر المِحَنِ التي تجري علينا بعد رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)». قال أبو خالد: فقلت: يا بن رسول الله؛ ثم يكون ماذا؟ قال: «ثُمَّ تَمتَدُّ الغَيبَةُ بوَلِيَّ الله (عزَّ وجلَّ) الثاني عشر من أوصياء رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) والأئمة بعده، يا أبا خالد؛ إنَّ أهل زمان غيبته القائلين بإمامته والمنتظرين لظهوره أفضل من أهل كُلِّ زمانٍ، لأنَّ الله تبارك وتعالى أعطاهم من العقول والأفهام والمعرفة ما صارت به الغيبةُ عندهم بمنزلة المشاهدة، وجعلهم في ذلك الزمان بمنزلة المجاهدين بين يدي رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بالسيف، أولئك المُخلِصُونَ حَقّاً، وشِيعَتُنا صِدقَاً، والدُّعَاةُ إلى دين الله (عزَّ وجلَّ) سِرّاً وجَهرَاً». وقال علي بن الحسين (عليهما السلام): «انتظارُ الفرجِ من أَعظمِ الفَرَجِ»(٣٥).
وأمَّا المطلب الثاني - أعني الدعاء له (عجَّل الله فرجه) وزياراته - فإنَّ اعتناء المؤمن بهما يُعَدُّ مَعلَماً من معالم الارتباط المعتدل بإمام الزمان (عجَّل الله فرجه)، في مقابل أهل التقصير الذين لا يذكرون إمامهم من هاتين الناحيتين.
ونكتفي هنا بالإشارة إلى بعض الأدعية والزيارات التي نقل جملة منها الشيخ عباس القمي (رحمه الله) في مفاتيح الجنان، وهو منتشر في الأصقاع بحمد الله، فلا عذر لمؤمن في ترك جميعها:
١ - زيارته (عجَّل الله فرجه) في كُلِّ جمعة.
٢ - زيارته (عجَّل الله فرجه) المعروفة بزيارة ياسين.
٣ - زيارته (عجَّل الله فرجه) وزيارة والدته الطاهرة بعد زيارة الإمامين العسكريين (عليهما السلام)، وأعمال السرداب المطهَّر.
٤ - دعاء الندبة في الجمعة والأعياد.
٥ - دعاء العهد في صباح كلِّ يوم.
٦ - دعاء الفرج في كلِّ وقت، وأوقات مخصوصة، وجاء بهذا الاسم دعاءان أو أكثر، ونختم هذا البحث المبارك بالمشهور منهما قائلين: «اللّهُمَّ كُنْ لِوَلِيِّكَ الحُجَّةِ ابْنِ الحَسَنِ صَلَوَاتُكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آبَائِهِ فِيْ هَذِهِ السّاعَةِ وَفِيْ كُلِّ سَاعَةٍ وَلِيّاً وَحَافِظَاً وَقَائِدَاً وَنَاصِرَاً وَدَلِيْلَاً وَعَيْنَاً حَتَّى تُسْكِنَهُ أَرْضَكَ طَوْعَاً، وَتُمَتِّعَهُ فِيْهَا طَوِيْلَاً رَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِيْنَ».
الهوامش:
(١) الكافي ٢: ٤١٤، ح١.
(٢) ومن أراد المزيد فعليه بكتابنا مرجعية الفقهاء في زمن الغيبة.
(٣) معاني الأخبار: ص١٥٧، ح١.
(٤) رجال النجاشي: ١٠، رقم الترجمة٧.
(٥) كمال الدين: ج٢، ص٤٨٣، ب٤٥، ح٤.
(٦) الكافي ١: ٤٠٣، ح١.
(٧) اختيار معرفة الرجال ٢: ٥٠٧، تسلسل٤٣١.
(٨) الكافي ١: ٦٧، ح١٠.
(٩) كمال الدين وتمام النعمة: ص٤٠٩، ح٩.
(١٠) الكافي ١: ٣٣٦، ح٣.
(١١) كمال الدين ٢: ٣٨٤، ب٣٨، ح١.
(١٢) بصائر الدرجات: ٥٠٨، ب١٢، ح٢.
(١٣) الكافي ١: ١٩٠، ح١.
(١٤) الكافي ١: ١٩١، ح٤.
(١٥) الكافي ١: ٢١٩، ح٢.
(١٦) الكافي ١: ٢١٩، ح٣.
(١٧) الكافي ١: ٢١٩، ح٤.
(١٨) بصائر الدرجات: ٢٧٩، ب١٦، ح١.
(١٩) يعني: في وجه عمرو بن إسحاق.
(٢٠) كذا بالفاء، ولعلَّ الأصل بالواو. والأمر سهلٌ.
(٢١) يعني: فنُؤَمِّنُ على دُعائِكُم، أي نقول: آمين.
(٢٢) بصائر الدرجات: ٢٨٠، ب١٦، ح٢.
(٢٣) اللَّأْوَاءُ: الشِّدَّة.
(٢٤) الاِصْطِلامُ: الاستِئصَال.
(٢٥) الاحتجاج ٢: ٣٢٣.
(٢٦) كمال الدين ٢: ٢٨٠، ب٢٤، ح٢٧.
(٢٧) يعني: أن لا يخرج، ولا يقوم، بل يتوفَّاه في غيبته، ثمَّ تقوم السَّاعة، لأنَّ الله تعالى لا يخلي الأرض من الإمام إلّا لذلك كمَّا دلَّ عليه جملة من الروايات، فلاحظ الكافي، الجزء١، ١٧٩، باب أنَّ الأرض لا تخلو من حجَّة.
(٢٨) الغيبة للنعماني: ٣١٢، ح١٠.
(٢٩) مصباح المتهجِّد: ٤١١.
(٣٠) بحار الأنوار ٦٦: ٢٢٢، ح٦، نقلاً عن قرب الإسناد.
(٣١) بصائر الدرجات: ص٤٦٥، ب١٤، ح١.
(٣٢) كمال الدين وتمام النعمة: ص٤٨٥، ح٤.
(٣٣) نقل الشهيد الثاني (قدِّس سرّه) في حاشيته على خلاصة الأقوال نقلاً عن الفضل بن شاذان: أن كنكر هو لقب لأبي خالد الكابلي، واسمه وردان (لاحظ: رسائل الشهيد الثاني ٢: ٩٨٧).
(٣٤) كذا، والصحيح: الرابع، لأنَّ الرابع من ولد الصادق (عليه السلام) هو عليٌّ الهادي (عليه السلام)، وابنه جعفر الكذَّاب، وأمَّا الخامس من ولد الصادق (عليه السلام) فهو الحسن العسكري (عليه السلام).
(٣٥) كمال الدين ١: ٣١٧، ب٣١، ح٢.