تاريخُ المرجعيَّة ونيابتها عن الإمام (عجّل الله فرجه) في زمن الغيبة
الشيخ جاسم الوائلي
إنَّ من نِعَم الله تعالى على هذه الطائفة الحقّة -لا سيما مع غيبة وليِّ الأمر (عجّل الله فرجه)- أن جعل لها مَوئِلاً تؤول إليه، ومعتَصَماً تعتصم به وتعتمد عليه، وهم الفقهاء الجامعون لشرائط الفتوى، والمتشرِّفون بمقام النيابة العامّة عنه (عجّل الله فرجه).
وحيث إنّ كلَّ ذي نعمة محسود، فلم تخلُ هذه الطائفة من حاسد وحقود لا يفتأُ يرميها بين الحين والآخر عن قوس مغالطاته وافتراءاته في حقّ أولئك الفقهاء العظام، ليوقع ضِعافَ عوامِّ الشيعة في شِراك أوهامٍ وإشكالاتٍ لو تأمَّلها كلُّ عاقل منصف لوجدها كنسج العناكب، لا تصمد أمام دليل أو برهان، ﴿وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ﴾ (العنكبوت: ٤١)، ولو اطّلع على أصالة فكرة المرجعيّة وقِدمها الضَّارب في عمق التاريخ ووقف على ماهيَّتها وحقيقتها لم يبق لديه أدنى غموضٍ وتردُّدٍ فيما يرمي إليه المشكِّكون والطَّاعنون من أهداف، وهي أهداف في منتهى الخبث والخطورة على عوامِّ الناس عقيدةً وفكراً ومنهجاً وسلوكاً.
وفي هذه الوريقات نحاول تسليط الضوء على هاتين الجنبتين في حلقتين وخاتمة:
الأولى: في تاريخ المرجعيّة وقدمها.
الثانية: حقيقة المرجعيّة ونيابة الفقيه عن المعصوم (عليه السلام).
الخاتمة: في أنّ مرجعيّة الفقيه أمر غني عن الدليل النقلي.
الحلقة الأولى: في تاريخ المرجعيّة وقدمها
إنّ المرجعيّة تاريخيّاً ترجع إلى صدر الإسلام، يوم عرفت الجزيرة الضَّاربة في البداوة ظاهرة التبليغ من قبل بعض المسلمين الأوائل، والذين كانوا النَّواة التي اتَّكأَ عليها الرسول الخاتم (صلى الله عليه وآله وسلم) في نشر تعاليم الإسلام في حياته الشريفة، قال تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ﴾ (الجمعة: ٢)، وفيه دلالة واضحة على أنه (صلى الله عليه وآله وسلم) كان مأموراً بتعليم أصحابه معالم الدين وأحكام الشريعة، ليكونوا بعد أن يبعثهم إلى أطراف دولة الإسلام مراجع للمسلمين في شؤون دينهم، كما هو واضح في حال عُمَّاله الذين بعثهم إلى تلك البلدان والأطراف، وعلى رأسهم عامله على اليمن عليُّ بن أبي طالب(عليه السلام)(١)، كما يتّضح ذلك أيضاً من نصب القُضاة ليرجع إليهم المتخاصمون في حسم الخصومات على ضوء الكتاب والسُنّة، لاسيما في عصر الخلافة.
ولا يقدح في أصل الفكرة ما ارتكبه خلفاء الجور مِن نصبهم مَن لم يكن أهلاً لهذا المنصب، كما لم يقدح غصبهم للخلافة في حقّانيّة مبدأ الإمامة.
نعم، لم تكن المرجعيّة يوم ذاك بحاجة إلى كلِّ هذه الدراسة وهذا التحصيل العلمي الذي هي عليه اليوم، لكن هذا لا يشكّل فارقاً في حقيقة المرجعيّة كما سيتبيَّن لاحقاً إن شاء الله تعالى.
ومن أوضح النصوص في قدم تاريخ المرجعيّة قوله تعالى: ﴿وَما كانَ المُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ﴾ (التوبة: ١٢٢)، فإنه صريح في أنَّ التَّفقُّه في الدين قضيّة لا تتأتّى لكلِّ أحد، وأنه ليس للمؤمنين أن يتركوا بأجمعهم شؤونهم الحياتيّة ويعطّلوا معايشهم الدنيويّة لينفروا إلى دراسة الشريعة وتعلُّم أحكامها، بل إنّ ذلك واجب بنحو الكفاية، وذلك بأن ينفر من كلِّ جماعةٍ كبيرةٍ - ﴿فِرْقَةٍ﴾ - جماعةٌ صغيرة وأفرادٌ معدودةٌ - ﴿طائِفَةٌ﴾ - لهذا الغرض، وبعد أن تتفقَّه كلُّ جماعة من تلك الجماعات الصغيرة وترجع كلُّ واحدة منها إلى بلدتها وموضع سكناها فإنها تأخذ على عاتقها إرشاد أهل تلك البلدة إلى معالم الدين وأحكام شريعة سيّد المرسلين.
ولا فرق من هذه الناحية بين عود ضمير ﴿رَجَعُوا﴾ إلى الطائفة المتفقّهة وبين عوده إلى القوم كما هو واضح بأدنى تأمُّل.
وعلى هذا جرى النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) في تعليم الناس بعضهم بالمباشرة، وبعضهم بالواسطة، فكان إذا أراد لحكم أو قضيّة أن تنتشر بين المسلمين وتبلغ الغائبين منهم كما بلغت الحاضرين قال لهم: «فَلْيُبَلِّغ الشّاهدُ الغائبَ»(٢) أو نحو ذلك.
وهذا نصٌّ آخر في الباب.
ثمّ أخذت المرجعيّة في عهد الأئمّة (عليهم السلام) في التطوُّر من حيث التحصيل العلمي والدّقّة في النظر والقدرة على الاستنباط أكثر فأكثر، بحيث تجد الفرق واضحاً بين فقه صحابة النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) وفقه أصحاب الأئمّة (عليهم السلام)، شأنهم في ذلك شأن أصحاب الفنون والعلوم الأخرى التي لا خلاف بين عاقلين من جهة كونها في تطوُّر دائم واتِّساع وارتقاء إلى مراتب لم تكن قد وصلتها في أوائل عهدها وبواكير تدوينها.
وأصدق شاهد على ذلك ما وقع في عهدَي الإمامين الصادقَين الباقرين (عليهما السلام)، إذ كان الأمر من هذه الجهة أكثر وضوحاً وأجلى صورة، حيث أخذا (عليهما السلام) في تأسيس أوَّل حوزة علميّة بالمعنى المصطلح، وقد تربَّى فيها العشرات بل المئات بل الألوف على يديهما في مختلف علوم الدين، ليكونوا مراجعَ للمسلمين في أطراف البلدان التي ليس بمقدور أهلها في العادة أن يأتوا إلى المدينة ليسألوا المعصوم (عليه السلام) عن معالم دينهم سواء في مجال العقائد أم الأحكام الشرعيّة في كلِّ صغيرة أو كبيرة، ولذا كان بعضهم - كما سننقله - قد صرَّح بذلك لبعض الأئمّة (عليهم السلام)، وأنه لا يقدر أن يلقاهم (عليهم السلام) كلَّما عرضت له مسألة، وسأل الإمام (عليه السلام) ما إذا كان له أن يرجع إلى فلان من أصحابه ليأخذ معالم الدين منه، والإمام (عليه السلام) أقرّه على ذلك.
وفي بعض النصوص ما يدلُّ صريحاً على أن المرجعيّة كانت موجودة إلى جنب الإمامة، فهذا أبان بن تغلب يأمره الإمام الباقر (عليه السلام) بأن يجلس في المسجد ويفتي الناس، بل أخبره (عليه السلام) بأنه يحبُّ أن يُرى في شيعته مثله، أعني مثل أبان.
وكان أبو حنيفة - فيما نقل عنه - إذا استعصت عليه مسألة واستغلقت بعث من يستفتي محمداً بن مسلم الطائفي الذي هو من أصحاب الباقرين (عليهما السلام) ليأتيه بجواب المسألة منه، من دون أن يعلمه أنه من قبل أبي حنيفة، وهذا يعني أن محمداً كان متصدّياً للفتوى في حياتهم (عليهم السلام).
وهكذا ما ورد في ترجمة معاذ بن مسلم الهرَّاء من تصدّيه للفتوى في أيّام الصادق (عليه السلام)، وأنه كان يفتي المسلمين كلاً حسب مذهبه، ومنهم الإمامية، وقد أقرَّه الإمام (عليه السلام) على ذلك.
وكذا ما ورد من قوله (عليه السلام) لأصحابه من أنه على الأئمة أن يلقوا لأصحابهم الأصول، وأن على الأصحاب التفريع، ومن المعلوم أن التفريع يتوقّف على وجود ملكة الاجتهاد والاستنباط ولو في بعض مراتبه المناسبة مع تلك العصور.
وصار الأمر أكثر وضوحاً في زمن الإمام الرضا (عليه السلام) حيث كانت مدرسة قمّ حاضرة وعامرة برجالات الطائفة وفقهائها ومراجعها، أمثال أحمد بن محمد بن عيسى الأشعري الذي جاء في ترجمته أنه كان الرئيس الذي يلقى السلطان، أي الفقيه الذي يلقاه سلطان ذلك الزمان كرئيسٍ للشيعة، كما نشاهد اليوم ذلك من مسؤولي الدولة بل المسؤولين الدوليِّين حينما يلتقون المرجعيّة العليا للطائفة كممثّل شرعيٍّ عنها، وأنت خبير بأن هذا العنوان لا ينطبق إلّا على من كان مرجعاً للطائفة أو أحد مراجعها وفق مصطلحنا اليوم.
ولتفصيل الكلام في إثبات قدم مرجعية الفقيه تاريخيّاً ومعاصرتها للإمامة وعصر المعصومين (عليهم السلام) نعقد البحث في مقامات ثلاثة:
الأوّل: قِدَمُ المرجعية حسب نصوص المعصومين (عليهم السلام).
الثاني: قِدَمُ المرجعيّة حسب كلمات الأعلام.
الثالث: قِدَمُ المرجعية حسب دليل العقل.
المقام الأوّل: قِدَمُ المرجعية حسب نصوص المعصومين (عليهم السلام):
لقد نقل صاحب الوسائل ݞ نصوصاً كثيرة(٣) يحصل من مجموعها القطع بالذي نروم إثباته من قدم المرجعيّة تاريخيّاً ومعاصرتها لصدر الإسلام، ولنذكر بعضها مع حذف أسانيدها لئلا يطول بذكرها الكلام:
١ - ما رواه عمر بن حنظلة(٤): سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن رجلين من أصحابنا بينهما منازَعة في دَينٍ أو ميراثٍ، فتحاكما إلى السلطان وإلى القضاة، أيحلُّ ذلك؟ قال: «من تحاكم إليهم في حقٍّ أو باطل فإنما تحاكم إلى الطاغوت، وما يحكم له فإنما يأخذ سحتاً وإن كان حقّاً ثابتاً له، لأنه أخذه بحكم الطاغوت وما أمر الله أن يكفر به، قال الله تعالى: ﴿يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ﴾ [النساء: ٦٠]» قلت: فكيف يصنعان؟ قال: «ينظران من كان منكم ممَّن قد روى حديثنا ونظر في حلالنا وحرامنا وعرف أحكامنا فليرضَوا به حَكَماً، فإنِّي قد جعلته عليكم حاكماً، فإذا حكم بحكمنا فلم يقبل منه فإنما استُخِفَّ بحكم الله وعليه ردَّ، والرَّادُّ علينا الرَّادُّ على الله، وهو على حدِّ الشرك بالله».
إن قوله (عليه السلام): «ونظر في حلالنا وحرامنا وعرف أحكامنا» ظاهر في النظر والمعرفة الفقهيين، أعني من له القدرة على إرجاع الفروع إلى الأصول، وإلّا فأنَّى لراوي الحديث غير الفقيه أن يُرجع القضية المتنازع فيها بين المتخاصمين إلى هذا الحديث أو ذاك من أحاديثهم (عليهم السلام)؟!
٢ - ما رواه أحمد بن إسحاق عن أبي الحسن (عليه السلام): سألته وقلت: مَن أُعامل، وعمَّن آخذ، وقولَ من أقبل؟ فقال: «العَمْرِيُّ ثقتي، فما أدَّى إليك عنِّي فعنِّي يؤدِّي، وما قال لك عنِّي فعنِّي يقول، فاسمع له وأطع، فإنه الثّقة المأمون».
قال: وسألت أبا محمد (عليه السلام) عن مثل ذلك فقال: «العَمريُّ وابنُه ثقتان، فما أدَّيا إليك عنّي فعنّي يؤدِّيان، وما قالا لك فعنّي يقولان، فاسمع لهما وأطعهما، فإنَّهما الثقتان المأمونان».
ومن المعلوم أن ثقاته (عليه السلام) لا ينحصرون بمن ذكر، فلابدَّ من ميزة للعمري وابنه اقتضت الإرجاع إليهما، كما لو كانا أقرب الرّواة الفقهاء إلى مكان السائل، وهذا يحصل عادة، كما سيتّضح لك جليّاً من بعض النصوص الآتية.
٣ - ما رواه إسماعيل بن الفضل الهاشمي: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن المتعة فقال: «إِلْقَ عبدَ الملك بن جريح فسله عنها، فإنَّ عنده منها علماً»، فلقيُته، فأملى عليَّ شيئاً كثيراً في استحلالها.. إلخ.
ومن الواضح لو كان السؤال عن مجرَّد حلّيتها ومشروعيّتها لأخبره الإمام (عليه السلام) بحكمها وحسب، فيعرف من هذا أن مطلوب السائل أمرٌ وراء مجرَّد المشروعيّة، وقد أطلق عليه الإمام (عليه السلام) اسم العلم.
٤ - ما رواه إسحاق بن يعقوب، قال: سألت محمد بن عثمان العَمريَّ أن يوصل لي كتاباً... فورد التوقيع بخط مولانا صاحب الزمان (عليه السلام): «...وأمّا الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا، فإنّهم حجّتي عليكم، وأنا حجّة الله...» الحديث.
يعني: أن رواة أحاديثهم حجّةٌ للإمام على الناس، وهو (عليه السلام) حجّة الله على الرُّواة، ومن المعلوم والبديهيّ أن مجرّد رواية أحاديثهم (عليهم السلام) لا يوجب أن يكون الرّاوي حجّة للإمام (عليه السلام) على الناس في طول كونه (عليه السلام) حجّةً لله على الرُّواة، إلّا أن يكون الرّاوي عارفاً بما يروي، وفي أي مجال يرويه، بمعنى أنه متى ما سئل عن مسألة يريد السائل حكمها من أهل البيت (عليهم السلام) فيجيبه عن مسألته بما هو مناسب لها مما ورد عنهم في تلك المسألة، وهذا يحتاج إلى فقهٍ ومعرفة بكيفية الرجوع إلى الروايات لمعرفة حكم المسألة، وإلّا لكان يستوي الرَّاوي الجاهل بمواطن تطبيق الرّوايات مع الرّاوي الفقيه العارف بذلك، وهذا مخالف لما يظهر من الحديث الأوّل، ولما روي عن الباقر (عليه السلام) من قوله: «قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): نضَّرَ الله عبداً سمع مقالتي فوعاها، وبلَّغها من لم تبلغه، رُبَّ حامل فقهٍ غيرُ فقيه، ورُبَّ حامل فقهٍ إلى من هو أفقه منه»(٥).
ولا يجوز في حكم العقل والعقلاء والشرع والمتشرّعة أن يكون حامل الرّوايات غيرُ الفقيه - أعني الرَّاوي العاجز عن استنباط الأحكام الشرعيّة من تلك الرّوايات - حجَّةً على الفقيه - أعني القادر على استنباطها منها - حتى لو لم يكن من الرّاوين لتلك الرّوايات.
٥ - ما رواه عبد المؤمن الأنصاري، قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): إن قوماً يَروُون أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: «اختلاف أمتي رحمة»، فقال: «صدقوا»، فقلت: إن كان اختلافهم رحمة فاجتماعهم عذاب، قال: «ليس حيث تذهب وذهبوا، إنما أراد قولَ الله : ﴿فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ﴾ [التوبة: ١٢٢]، فأمرهم أن ينفروا إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فيتعلّموا، ثم يرجعوا إلى قومهم فيعلّموهم، إنما أراد اختلافهم من البلدان، لا اختلافاً في دين الله، إنما الدين واحد، إنما الدين واحد».
وهو يدلُّ على المطلوب، فإن المذكورين ليسوا من الرُّواة فحسب، بل من المتفقّهين في الدين، والذين يتمُّ إعدادهم ليكونوا مراجع لأقوامهم، لا مجرَّد رواة حديث.
نعم، لا ننكر أن مقدّمات الاستنباط يومذاك لم تكن بالصعوبة التي عليها اليوم، لأن المتفقّه على يد النبيّ الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) لا يحتاج إلى سند بينه وبينه (صلى الله عليه وآله وسلم)، وبالتالي فهو مستغنٍ عن علم الرجال بالمرَّة، وهو علم يأخذ اليوم من الفقيه شطراً كبيراً من عمره في سبيل تحصيله ودراسته.
كما لا يحتاج إلى أن يدرس مباحث الألفاظ برمَّتها، والتي تبحث في علم الأصول، وتأخذ قسماً كبيراً من عمر فقهاء اليوم، وتشغل حيّزاً كبيراً من تفكيرهم من لدن بواكير دراستهم حتى آخر لحظة من حياتهم الشريفة.
ناهيك عن علوم العربية كلها أو جُلّها واستغناء أكثر الرّواة عن دراستها يومذاك، بينما تأخذ شطراً وافراً من عمر الفقهاء اليوم وحيّزاً كبيراً من تفكيرهم.
إلى غير ذلك مما لم يكن الفقيه يومذاك بحاجة إليه مما أحوجنا إليه اليومَ غيابُ المعصوم (عليه السلام) أو ابتعادنا عن تلك الأزمان التي لها تلك الخصوصيّات.
٦ - ما رواه جميل بن درَّاج، قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: «بشر المخبتين بالجنة؛ بريد بن معاوية العجلي، وأبو بصير ليث بن البختري المرادي، ومحمد بن مسلم، وزرارة، أربعةٌ نجباء، أمناء الله على حلاله وحرامه، لولا هؤلاء انقطعت آثار النبوة واندرست».
وهو واضح في أنَّ لهؤلاء خصوصيّةً لم تكن لغيرهم من رواة الحديث على كثرتهم، حتى قيل: إنهم بلغوا أربعة آلاف راوٍ.
٧ - ما رواه شعيب العَقرقُوفيّ، قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): ربما احتجنا أن نسأل عن الشيء، فمن نسأل؟ قال: «عليك بالأسدي»، يعني أبا بصير.
ولو لم يكن للأسديّ خصوصيّة لقال (عليه السلام): عليك بالثقات من الرّواة، وإلّا فلا تبقى للأسدي أيَّة خصوصيّة تستوجب تخصيصه بالذكر.
٨ - ما رواه المفضَّل بن عمر، أن أبا عبد الله (عليه السلام) قال للفيض بن المختار في حديث: «فإذا أردت حديثنا فعليك بهذا الجالس»، وأومأ إلى رجل من أصحابه، فسألت أصحابنا عنه، فقالوا: زرارة بن أعين.
وفيه دلالة على ما ذكرنا من أن الرُّواة الذين هم حجَّة علينا هم خصوص الفقهاء منهم لا مطلقاً، كزرارة، ومحمد بن مسلم، وأبي بصير، وأضرابهم، وإلّا فإن الرُّواة من أصحاب أبي عبد الله الصادق (عليه السلام) وحده يزيدون على أربعة آلاف راوٍ كما ألمحنا، وأن الثقات منهم كثيرون جدّاً، فلِمَ خصَّ (عليه السلام) مراجعة الفيض بزرارة مع وجود رواة آخرين غيره وهم كُثُر؟!.
ومن البعيد أن لا يوجد أيُّ راوٍ ثقة يمكن للفيض أن يرجع إليه غير زرارة، وفي الحديث الآتي دلالةٌ على ذلك ظاهرةٌ، بل هي أظهر.
٩ - ما رواه سليمان بن خالد، قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: «ما أجد أحداً أحيى ذكرنا وأحاديث أبي (عليه السلام) إلّا زرارة، وأبو بصير ليث المرادي، ومحمد بن مسلم، وبريد بن معاوية العجلي، ولولا هؤلاء ما كان أحد يستنبط هذا، هؤلاء حُفَّاظ الدين، وأمناء أبي (عليه السلام) على حلال الله وحرامه، وهم السابقون إلينا في الدنيا، والسابقون إلينا في الآخرة».
فلو كان إحياء أحاديثهم (عليهم السلام) بمجرَّد روايتها والتحديث بها لم تكن للمذكورين أيّة خصوصيّة من هذه الجهة، بل لكان غيرهم ممن هو أكثر منهم رواية أجدر منهم بذلك التوصيف.
وأنت إذا تأمَّلت ما وصفهم به تيقَّنت أن المقصود من الرُّواة الذين هم حجّة على العباد هم من كان فقيهاً منهم، ممَّن له القابليّة على استنباط مقاصدهم (عليهم السلام) واستخراج الفروع من الأصول، وإلّا فهل يستحقُّ الرّاوي مقام حفظ الدين والأمانة على حلال الله وحرامه وكونه من السابقين إلى أهل البيت (عليهم السلام) في الدنيا والآخرة بمجرّد روايته لأحاديثهم (عليهم السلام) من دون حملها على محاملها المقصودة لهم (عليهم السلام)؟!.
وقريب من هذا المضمون الحديثان ٢٢ و٢٦ من الباب، فراجعه.
١٠ - ما رواه عبد الله بن أبي يعفور، قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): إنه ليس كلَّ ساعة ألقاك، ولا يمكن القدوم، ويجيءُ الرجل من أصحابنا فيسألني وليس عندي كلُّ ما يسألني عنه، فقال: «ما يمنعك من محمد بن مسلم الثقفي، فإنه سمع من أبي، وكان عنده وجيهاً».
ومن الواضح أنه لو كان المقصود مجرّد الوصول إلى أحاديثهم (عليهم السلام) لكفى الرجوع إلى ثقات الرّواة، ولا حاجة إلى كون الرَّاوي وجيهاً، كما أن وصف محمد بن مسلم بذلك دليل على أن سبب وجاهته لم يكن مجرَّد صدقه ووثاقته، وإلّا كان جميع الثقات وجهاء عند أهل البيت (عليهم السلام).
١١ - ما رواه يونس بن يعقوب، قال: كنَّا عند أبي عبد الله (عليه السلام) فقال: «أما لكم من مَفزعٍ؟ أما لكم من مُستراحٍ تستريحون إليه؟ ما يمنعكم من الحارث بن المغيرة النصري؟».
ومن البعيد جداً أن لا يوجد أيُّ راوٍ ثقة غير النصري في ناحية المخاطَبين وبلدتهم، ما يعني أن للنصريّ خصوصيةً بها استحقَّ اسم المفزَع والمستراح، وإلّا فالرّاوي مهما كان ثقة لا يصدق في حقِّه العنوانان المذكوران إذا لم يكن قادراً على استنباط وظائف من يفزعون ويستريحون إليه مما يرويه من أحاديثهم (عليهم السلام).
١٢ - ما رواه جميل بن دراج، عن أبي عبد الله (عليه السلام) في حديث أنه ذمَّ رجلاً، فقال: «لا قدَّس الله روحه، ولا قدَّس مثله، إنه ذكر أقواماً كان أبي ائتمنهم على حلال الله وحرامه، وكانوا عَيبة علمه، وكذلك اليوم هم عندي مستودعُ سرِّي، وأصحابُ أبي حقّاً، إذا أراد الله بأهل الأرض سوءاً صرف بهم عنهم السوء، هم نجوم شيعتي أحياءً وأمواتاً، هم الذين أحيَوا ذكر أبي، بهم يكشف الله كلَّ بدعة، ينفون عن هذا الدين انتحال المبطلين، وتأويل الغالين»، ثم بكى، فقلت: من هم؟ فقال: «من عليهم صلوات الله وعليهم رحمته أحياء وأمواتاً، بريد العجلي، وأبو بصير، وزرارة، ومحمد بن مسلم».
والكلام فيه كالكلام في النصّ التاسع المتقدّم.
ونزيد هنا أن كشف البدع ونفي انتحال المنتحلين لا يتهيّأ لكلّ راوٍ ما لم يكن ذا فضل وفقاهة كافيين في ذلك كما هو أوضح من أن يوضَّح.
١٣ - ما رواه عليُّ بن المسيب الهمداني، قال: قلت للرضا (عليه السلام): شُقَّتي بعيدة ولست أصل إليك في كلِّ وقت، فممَّن آخذ معالم ديني؟ قال: «من زكريا بن آدم القُمِّي المأمون على الدين والدنيا»، قال علي بن المسيب: فلمّا انصرفت قدمنا على زكريا بن آدم، فسألته عما احتجت إليه.
ومن البعيد جدّاً صدق العنوان المذكور - «المأمون على الدين والدنيا» - على من لا يحسن إلّا حفظ الروايات عن ظهر قلب، أو في أصل أو كتاب مما يتمكّن منه كثير من الثقات آنذاك، وإلّا فهل يُعدُّ من حفظ الدين حمل الرّوايات على غير مقاصدهم (عليهم السلام) التي تحتاج معرفتها إلى إحاطةٍ ودرايةٍ وفقهٍ لجملة معتدّ بها من تلك الرِّوايات؟! كلا، بل لابدَّ في تحقّق العنوان المذكور من الاتّصاف بما ذكرنا مما له تمام المدخليّة في الفقاهة والفهم بالمقدار المعتدّ به، وإلى هذا المعنى يشير حديث الإمام الصادق (عليه السلام) الآتي: «اعرفوا منازل شيعتنا بقدر ما يحسنون من رواياتهم عنّا، فإنا لا نعدُّ الفقيه منهم فقيهاً حتى يكون محدَّثاً»، فقيل له: أَوَ يكون المؤمن محدَّثاً؟ قال: «يكون مفهَّماً، والمفهَّم المحدَّث»، فلاحظ قوله (عليه السلام): «بقدر ما يحسنون من روايتهم عنّا»، وقوله (عليه السلام): «حتّى يكون محدَّثاً» وتفسيره له تعرف أن القول ما قلنا.
١٤ - ما رواه عبد العزيز بن المهتدي والحسن بن علي بن يقطين جميعاً، عن الرضا (عليه السلام)، قال: قلت: لا أكاد أصل إليك أسألُك عن كلِّ ما أحتاج إليه من معالم ديني، أفيونسُ بن عبد الرحمن ثقةٌ آخذ عنه ما أحتاج إليه من معالم ديني؟ فقال: «نعم».
فالرّاوي لم يسأل عن أخذ نصوص الرّوايات من يونس كما هي، بل عن أخذ معالم الدين منه، والمعالم: جمع معلم، وهو الأمر البارز، كمعالم الطريق، وهي علاماته، وكمعالم المدينة، وهي أبنيتها المرتفعة وما كان بارزاً منها، وكمعالم التاريخ، وهي أحداثه المهمّة والبارزة، وعلى هذا لا بدَّ أن يكون المراد من معالم الدين ما هو الأهمّ من بين مسائله، لا خصوص الأحكام الفرعيّة، وهذا ما لا يمكن لغير الفقيه تحديده واستخراجه من الرّوايات.
وعلى منواله الحديثان ٣٤ و٣٥ من الباب.
١٥ - ما رواه معاذ بن مسلم النحوي، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: «بلغني أنّك تقعد في الجامع فتفتي الناس»، قلت: نعم، وأردتُ أن أسألك عن ذلك قبل أن أخرج، إني أقعد في المسجد فيجيءُ الرجل فيسألني عن الشيء، فإذا عرفته بالخلاف لكم أخبرته بما يفعلون، ويجيء الرجل أعرفه بمودّتكم وحبّكم، فأخبره بما جاء عنكم، ويجيء الرجل لا أعرفه ولا أدري من هو، فأقول: جاء عن فلان كذا، وجاء عن فلان كذا، فأدخل قولكم فيما بين ذلك، فقال لي: «اصنع كذا، فإنّي كذا أصنع».
وهذا مما لا يحتاج إلى إيضاح، فإنه نصٌّ في المطلوب.
١٥ - ما رواه محمد بن أحمد بن حمّاد المروزي المحمودي يرفعه، قال: قال الصادق (عليه السلام): «اعرفوا منازل شيعتنا بقدر ما يحسنون من رواياتهم عنَّا، فإنّا لا نَعُدُّ الفقيه منهم فقيهاً حتى يكون محدَّثاً»، فقيل له: أَوَ يكون المؤمن محدَّثاً؟ قال: «يكون مُفَهَّماً، والمفَهَّمُ المُحدَّث».
ودلالة هذا الحديث على ما ذكرنا آنفاً أوضح من أن تحتاج إلى توضيح.
هذه جملة من النصوص الدَّالة على قدم المرجعيَّة بقدم الإمامة، لا يرتاب بعد الاطّلاع عليها إلّا كلُّ مريض القلب أو سقيم الفهم.
المقام الثاني: قِدَمُ المرجعيّة حسب كلمات الأعلام:
ولنعطف الكلام إلى ما قاله رجاليُّوا الطائفة في حقِّ جماعة من الرواة عن الأئمة (عليهم السلام)، مما يدلُّ على أنهم كانوا مراجع للشيعة في عصور الأئمة (عليهم السلام)، وإليك بعض كلماتهم في حقِّ بعض الرُّواة ممن يغنى ذكرهم عن ذكر من سواهم:
١ - ما جاء في رجال الكشي تحت عنوان (تسمية الفقهاء من أصحاب أبي جعفر وأبي عبد الله (عليهم السلام)) من قوله: (أجمعت العصابة على تصديق هؤلاء الأوّلين من أصحاب أبي جعفر (عليه السلام) وأبي عبد الله (عليه السلام) وانقادوا لهم بالفقه، فقالوا: أفقه الأوّلين ستة: زرارة، ومعروف بن خربوذ، وبريد، وأبو بصير الأسدي، والفضيل بن يسار، ومحمد بن مسلم الطائفي. قالوا: وأفقه الستَّة زرارةُ، وقال بعضهم مكان أبي بصير الأسدي: أبو بصير المرادي، وهو ليث بن البختري)(٦).
٢ - وقال تحت عنوان (تسمية الفقهاء من أصحاب أبي عبد الله (عليه السلام)): (أجمعت العصابة على تصحيح ما يصحُّ عن هؤلاء، وتصديقهم لما يقولون، وأقرُّوا لهم بالفقه، من دون أولئك الستّة الذين عددناهم وسمَّيناهم، ستة نفر: جميل بن درّاج، وعبد الله بن مُسكان، وعبد الله بن بكير، وحمَّاد بن عيسى، وحمّاد بن عثمان، وأبان بن عثمان. قالوا: وزعم أبو إسحاق الفقيه - يعني ثعلبة بن ميمون - أنَّ أفقه هؤلاء جميل بن درّاج، وهم أحداث أصحاب أبي عبد الله (عليه السلام))(٧).
٣ - وقال تحت عنوان (تسمية الفقهاء من أصحاب أبي إبراهيم وأبي الحسن الرضا (عليهم السلام)): (أجمع أصحابنا على تصحيح ما يصحُّ عن هؤلاء، وتصديقهم، وأقرُّوا لهم بالفقه والعلم، وهم ستّة نفر أُخر دون الستّة نفر الذين ذكرناهم في أصحاب أبي عبد الله (عليهم السلام)، منهم: يونس بن عبد الرحمن، وصفوان بن يحيى بيَّاع السَّابريّ، ومحمد بن أبي عمير، وعبد الله بن المغيرة، والحسن بن محبوب، وأحمد بن محمد بن أبي نصر. وقال بعضهم مكان الحسن بن محبوب: الحسن بن عليّ بن فضَّال، وفُضالة بن أيُّوب، وقال بعضهم مكان ابن فضَّال: عثمان بن عيسى. وأفقه هؤلاء يونس بن عبد الرحمن، وصفوان بن يحيى)(٨).
ومن المعلوم أنّ هؤلاء المذكورين في العبارات الثلاثة للكشي (رحمه الله) لو لم يكونوا مراجع تفزع الشيعة إليهم في زمن الأئمّة (عليهم السلام) فلا معنى لقول المجمعين بأن الأصحاب انقادوا لهؤلاء الثمانية عشر وأقرُّوا لهم بالفقه والعلم.
٤ - ما ذكره النجاشيُّ في ترجمة أبان بن تغلب، من قوله (رحمه الله): وقال له أبو جعفر (عليه السلام): «اجلس في مسجد المدينة وأَفتِ الناسَ، فإنّي أحبُّ أن يُرى في شيعتي مثلُك»(٩).
ولعمري إن الأمر لا يحتاج إلى مزيد توضيح، وفي هذا كفاية لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد، وأمّا مرضى القلوب ومن قبلهم النّواصب فلا حرص لنا على إقناعهم.
المقام الثالث: قِدَمُ المرجعية حسب دليل العقل:
إن قدم المرجعية أمر لا يحتاج في إثباته إلى نصٍّ، فإنه مما تقتضيه طبيعة الحال، بل هو أمر لا بدَّ منه، إذ لا يمكن للمكلَّفين - بأيَّة حال - تحصيل العلم بمعظم الأحكام الشرعية إلّا من خلال الرجوع إلى العالمين بها.
وبيان ذلك يتمُّ بتقديم ثلاث مقدمات بديهيّة:
الأولى: إن كلَّ مسلم يعلم بوجود تكاليف شرعيّة يجب عليه إحرازُ امتثالها.
الثانية: إن إحراز امتثالها يتوقَّف على العلم بها.
الثالثة: إن الأحكام الشرعية منها ما هو واضح ومعلوم لكلّ مسلم، وهو أقلُّ القليل من الأحكام، كوجوب الفرائض اليومية، واستحباب صلاة الليل، وحرمة قتل النفس المحترمة، والزّنا، وشرب الخمر، وأمّا القسم الأعظم منها فيتوقَّف العلم به على عملية الاستنباط، ويعبَّر عن هذا القسم بالأحكام الاجتهادية، ومعه فلا يمكن تحصيل العلم بها لغير الفقهاء والمجتهدين.
هذه ثلاث مقدّمات لا كلام فيها بعد بداهتها.
ونتيجتها الحتميّة: أن إحراز امتثال التكاليف الاجتهادية يتوقَّف على أحد طرق ثلاثة:
١ - الاجتهاد.
٢ - التقليد لمن بلغ رتبة الاجتهاد.
٣ - الاحتياط، وهو طريق وقع الخلاف في مشروعيّته.
والطريق الممكن للسَّواد الأعظم من المكلَّفين هو الثاني دون غيره.
أمّا الطريق الأوَّل فيتوقَّف على بلوغ المكلَّف رتبة الاجتهاد والاستنباط، وهي رتبة لا يمكن تحصيلها لكلّ أحد، بل لا يمكن في العادة أن يتفرَّغ لتحصيلها إلّا أقلُّ القليل ممن يمكنهم تحصيلها، ولذا تجد أن عدد الفقهاء في كلِّ عصر قليلٌ جدّاً بالقياس إلى عدد المكلّفين في ذلك العصر.
وما ذلك إلّا لما تقتضيه طبيعة الحال، فإنها تقتضي أن ينصرف معظم الناس إلى شؤونهم الحياتية، فينصرف التُّجار إلى مواضع تجاراتهم، والموظَّفون إلى وظائفهم، والمزارعون إلى مزارعهم، والعُمَّال والحرفيُّون إلى أماكن عملهم، والكَسَبَة إلى مصادر كسبهم، والمعلِّمون والطلبة إلى مدارسهم، والأطباء والممرضون إلى مستشفياتهم، وربّات البيوت إلى إدارة شؤون أسرهنَّ، ورجال الجيش والأمن إلى ثكناتهم، وهكذا.
وهذا ما أشارت إليه الآية الكريمة آنفة الذكر: ﴿وَما كانَ المُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ﴾ (التوبة: ١٢٢)، أي: ليس لهم أن ينفروا جميعاً إلى المدينة لتحصيل الفقه بالأحكام الشرعية وغيرها من أمور الدين من النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم)، بل يكفي أن ينفر إليها من كلِّ بلدة أو قرية جماعة لتحصيل ذلك، ثم تقوم هذه الجماعة بدورها بنقل ما حصَّلته إلى أهل ناحيتهم وسُكّان بلدتهم.
ومن هنا يتضح لك جليّاً أن مفاد الآية الكريمة هو الإرشاد إلى ما تقدَّم من حكم العقل، وليس مفادها حكماً مولويّاً تأسيسيّاً كما قد يُتوهَّم.
وأمّا الطريق الثالث - أعني الاحتياط - فمضافاً إلى وقوع الخلاف في مشروعيَّته هو متعسِّر على العوامِّ، بل مستحيل في العادة.
توضيحه: أن من لم يبلغ رتبة الاجتهاد لو أراد إحراز امتثال التكاليف من غير طريق التقليد فعليه أن يكون محيطاً بجميع آيات وروايات الأحكام المبيِّنة لتلك التكاليف، مضافاً إلى الإحاطة بجميع المسائل الخلافية بين الفقهاء، ثمَّ يلاحظ في كلِّ مسألة ما هو الأحوط فيها بحسب ما لاحظه من نصوص الكتاب العزيز والروايات الشريفة وكلمات الفقهاء.
ومن المعلوم أن الإحاطة بذلك كلِّه تحتاج إلى تحصيل علميٍّ عالٍ يقرب من تحصيل رتبة الاجتهاد، والمفروض أن كلامنا في السَّواد الأعظم من المكلَّفين المنصرفين إلى حياتهم كما ألمحنا.
هذا كلُّه فيمن يجيد قراءة النصوص وكلمات الأعلام بأقلِّ مستوى مقبول، وأما من لم يكن كذلك وهم الأكثر فلا سبيل لهم إلّا التقليد، فضلاً عن الأميِّين الذين لا يعرفون القراءة والكتابة، وفي حكمهم الأعاجم الذين لا يجيدون العربية أو لا يعرفونها أصلاً.
هذا كلُّه في الموارد التي يمكن فيها الاحتياط، وأمّا التي يكون مستحيلاً فيها - كموارد الدوران بين المحذورين كالدوران بين وجوب فعل وحرمته - فينحصر طريق الامتثال فيها بالاجتهاد والتقليد، وحيث إن الكلام في غير المجتهدين فيتعيَّن عليهم التقليد ولا سبيل لهم غيره.
والمتحصّل مما تقدَّم: أن مرجعيّة الفقهاء لغيرهم من المكلَّفين أمر قديم بقِدَم الإسلام، ولا أقلَّ بقِدَم الإمامة ولو في عهد الإمامين الباقرين (عليهما السلام)، وأنها ليست حالة طارئة اقتضتها غيبة المعصوم (عليه السلام) كما يتوهَّم ذلك كثير من الناس، كما أنه أمرٌّ لا بُدَّ للعوامِّ منه في تحصيل تكاليفهم الاجتهادية.
الحلقة الثانية: حقيقة المرجعيّة ونيابة الفقيه عن المعصوم (عليه السلام):
لا كلام في أن المكلّفين في زمن الغيبة الصغرى كانوا يرجعون إلى الوكلاء الذين أمر المعصومون (عليهم السلام) بالرجوع إليهم، ولذا فقد تمثَّلت المرجعيّة آنذاك بهم، ويصطلح عليهم بالنوَّاب الخاصِّين، لنصِّ المعصوم (عليه السلام) عليهم بأعيانهم وأسمائهم، أوَّلهم: عثمان بن سعيد العَمْري الزَّيّات، ثمَّ من بعده ابنه محمد بن عثمان الخَلاني، ثمّ من بعده الحسين بن روح النَّوبختي، ثمّ من بعده عليُّ بن محمد السَّمَري، والذي بموته انقطعت السّفارة والنّيابة الخاصّة، رضوان الله تعالى عليهم أجمعين.
وأمّا في زمن الغيبة الكبرى فلا شكَّ في أن الحاجة إلى المراجع تكون أشدّ وأكبر كما اتَّضح مما سبق، وليس ثمّة من يليق بهذا المقام الخطير إلّا الفقهاء العدول، ويصطلح عليهم بالنوَّاب العامِّين، لأنَّ المعصوم (عليه السلام) لم ينصَّ عليهم بأسمائهم، بل بأوصافٍ تصدق على العديد منهم في كلّ زمان، وأعطى ضابطة عامّة في ذلك، فمن توفّرت فيه جاز الرجوع إليه، كما في قوله (عليه السلام): «... فأمّا من كان من الفقهاء صائناً لنفسه حافظاً لدينه مخالفاً لهواه مطيعاً لأمر مولاه فللعوام أن يقلّدوه...».
والوجه في ذلك: أن التشريع لم يجعل لزمان دون زمان، بل أريد له أن يبقى إلى آخر الدنيا، ومن المعلوم أن الأحوال والوقائع في تغيُّر دائم وتطوَّر مستمرّ في الوسائل والأدوات والعلوم والفنون والمعاملات، وغير ذلك ممَّا يدعو إلى ضرورة معرفة الموقف الشرعي منها، وهو ما أشار إليه (عليه السلام) في الرّواية الرابعة من الروايات المتقدّمة: «... وأمّا الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا، فإنهم حجّتي عليكم، وأنا حجّة الله»، وحيث إن معرفة أحكام تلك الوقائع تتوقَّف على استنباطها من مصادر التشريع - أعني: الكتاب، والسنة، والإجماع، والعقل - فانحصر تحصيلها بالفقيه، لأنه هو وحده من له القدرة على استنباط الأحكام من تلك المصادر.
وفي حال لم يجد الفقيه حكمها في شيءٍ من تلك المصادر فلابد من تحديد الموقف الشرعي من طرق أخرى، وهنا تكون الحاجة إلى الفقيه أشدَّ منها في الموارد التي يمكن له أن يستنبط حكمها من تلك المصادر، فيرجع إلى قواعد ثبت لديه بالدليل وجوب الرجوع إليها في تلك الحالة، كقاعدة البراءة، والاستصحاب، والتخيير، والاشتغال، وغيرها من القواعد.
ولا يمكن لأي شخص أن يفتي استناداً إلى تلك الأدلّة أو القواعد ما لم يكن قد قطع شوطاً بعيداً وزمناً طويلاً في دراسة جملة علوم لا يمكنه الوصول إلى مرتبة الاجتهاد إلّا بالغوص في أعماقها وسبر أغوارها واستيعابها وهضمها جيداً نظريّاً ثمَّ تطبيقيّاً، ولذا تجد كثيراً من طلبة العلوم الحوزوية لا يتمكّنون من الوصول إلى هذه المرتبة، الأمر الذي يكشف عن مدى دقّتها وصعوبتها ووعورة طريقها.
وتشتدُّ الحاجة إلى الفقيه أكثر فأكثر في المسائل المرتبطة بالدماء والأعراض والأموال.
ولا ينبغي أن ننسى في هذا المجال باب القضاء، والذي يحتاج إلى مرتبة عالية جداً من العلم والفقاهة.
كما لا يخفى اشتداد الحاجة بشكل مضاعف لو قلنا بثبوت الولاية للفقيه في إدارة البلاد في هذه الأجواء الخطيرة والغارقة في السياسات الدولية المعقّدة والمخادعة، والتي تتطلَّب من الفقيه - زيادة على الإحاطة بالعلوم الحوزويّة- أن يكون له اطّلاع واسع على السياسة والقوانين الدولية، ولو من خلال الاستعانة بالخبراء والمستشارين الثقات في هذا المجال.
ومن هذا كلّه يتَّضح ما للمرجعيّة من مكانة خطيرة ومنزلة تساوق مقام الإمامة بالمعنى الأعمّ، فإنّ الإمامة بالمعنى الأعمّ تعني القيادة، وهي إمّا تؤدّي بالأتباع إلى الجنة وتلك هي إمامة أئمّة الهدى، وإمّا تؤدّي بهم إلى جهنّم، وتلك هي إمامة أئمة النار، وحيث إن إمامة الفقهاء العدول امتدادٌ لإمامة المعصومين (عليهم السلام) الذين هم أئمّة الهدى - كما يستفاد من بعض النصوص المتقدّمة لا سيما قوله (عليه السلام): «فإنهم حجّتي عليكم وأنا حجّة الله» - فتكون إمامتهم إمامة هدى أيضاً، وأمّا غير الفقهاء أو الفقهاء المنحرفون فحيث لم يكونوا من أئمة الهدى فلابد أن يكونوا من أئمّة النار، لعدم التوسُّط بين الإمامتين.
والحاصل: أن المرجعيّة - حقيقةً - هي الظهير والداعم للإمامة في زمن الحضور، وهي الامتداد لها في زمن الغيبة ولو برتبة نازلة.
ومنه يتّضح ما هو مقامها ومكانتها عند الإماميّة، وكونها تالية الإمامة الكبرى، كما أن الإمامة تالية النبوَّة، من غير مبالغة ولا غلوٍّ في أي شيءٍ من ذلك ألبتة.
الخاتمة: مرجعية الفقيه أمر غنيٌّ عن الدليل النقلي
ينبغي أن لا نغفل عمّا قدَّمناه في المقام الثالث من الحلقة الأولى من أنَّ الحاجة إلى الفقيه أمر تقتضيه طبيعة الحال، وليس أمراً مستفاداً من النصوص إلّا بنحو الإرشاد إلى حكم العقل.
ومن هنا تعرف أننا لا نعير كثير أهميّة لتصحيح أسانيد بعض الرّوايات المتقدّمة، ومعه فلا يشكل علينا بأن أسانيد بعضها ضعيف.
نعم، يمكن أن تشكّل بمجموعها دليلاً قطعيّاً، لاجتماعها على لازم واحد مشترك بينها بحيث يكون أمراً متواتراً تواتراً إجماليّاً، ألا وهو مشروعيَّة الرجوع إلى الفقهاء في جميع العصور لمن لم يكن فقيهاً.
فإن لم تبلغ بمجموعها رتبة الدليل فهي تصلح مؤيّداً لما ذكرنا.
وعلى جميع التقادير يكفينا دليل العقل القطعي المتقدّم والذي لا ينكره إلّا جاهل أو مكابر أو متكبّر.
والحمد لله تعالى أولاً وآخراً، وله الشكر باطناً وظاهراً، وصلواته على عباده الذين اصطفى، محمد وعترته خير الورى، ورضوانه ورحمته على أمنائهم على الحلال والحرام فقهاء الأمّة العدول، ومعتمدي الأئمة الأطهار من آل الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم).
الهوامش:
(١) لاحظ: السُّنن الكبرى للنسائي ٣: ٢٦٧، و٣٨٠/طبعة دار الكتب العلمية بيروت/ بتحقيق: الدكتور عبد الغفار البنداري وسيد كسروي حسن. والاستيعاب لابن عبد البر ٤: ١٧١٩/طبعة دار الجيل بيروت/ بتحقيق: علي محمد البجاوي. وتحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي للمباركفوري ٧: ٣٧٣/طبعة دار الكتب العلمية بيروت.
(٢) بحار الأنوار: ٧٣: ٣٥٠.
(٣) وسائل الشيعة: ٢٧: ١٣٦، الباب ١١.
(٤) ويعبَّر عن هذه الرّواية بمقبولة عمر بن حنظلة، لأن العلماء تلقَّوها بالقبول.
(٥) مستدرك الوسائل: ١٧: ٢٨٥.
(٦) اختيار معرفة الرّجال: ٥٠٧.
(٧) المصدر: ٣٢٢.
(٨) المصدر: ٤٦٦.
(٩) رجال النجاشي: ١٠.