الصفحة الرئيسية » البحوث والمقالات المهدوية » (٦٤٠) الإيمان والإلحاد بين الانتظار واليأس
 البحوث والمقالات المهدوية

المقالات (٦٤٠) الإيمان والإلحاد بين الانتظار واليأس

القسم القسم: البحوث والمقالات المهدوية الشخص الكاتب: الشيخ حسن الكاشاني تاريخ الإضافة تاريخ الإضافة: ٢٠٢١/٠٣/١٢ المشاهدات المشاهدات: ٣٩٧١ التعليقات التعليقات: ٠

الإيمان والإلحاد بين الانتظار واليأس

الشيخ حسن الكاشاني

من أين تأتي الأفكار الإلحادية؟
انطلاقاً من مبدأ أنَّ الله تعالى لا يخاف الفوت، وأنَّه لا يعجل بالانتقام، ويُعطي فرصة للكلِّ ليمتحنهم ويبتليهم، فقد قدَّر في قضائه المحكم أن يملي للكافرين والظالمين ويمهلهم ولا يستأصلهم بأوَّل ما يهمّوا بالفساد والإفساد.
وهذا ممَّا صـرَّح الله تعالى به في عدَّة من آي الذكر الحكيم، كقوله تعالى:
(كُلًّا نُمِدُّ هؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ وَما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً) (الإسراء: ٢٠).
(وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً) (آل عمران: ١٧٨).
(وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ) (الأعراف: ١٨٣).
(إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ ٣٧ إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ ) (الحجر: ٣٧ و٣٨).
فهو تعالى قد أنظر إبليس وجنده وأملا لهم وأمهلهم وأمدَّهم بالعطاء، وهذا واحدة من أهمّ أسباب الابتلاء وافتتان الناس بهم (لِيَمِيزَ اللهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ) (الأنفال: ٣٧).
وهذا الإمهال والإملاء رغم كلّ ما فيه من الحِكَم الإلهية، فإنَّ له مضاعفات تُؤثِّر في حدوث حالة من التقهقر والانهزام لدى الفئة المؤمنة، ممَّا قد يؤدّي بها إلى تلك المخاطر، حيث يفقد الناسُ الأملَ بنجاح المشـروع الإلهي حينما يرون أنَّ الدور البارز والقوَّة الغالبة هي بيد إبليس وأتباعه من الطغاة والكافرين. ويظنون - لعدم حيطتهم بنظام الدنيا وعاقبة الأرض وقصـر مكوث الظالمين فيها - أنَّ الله تعالى قد غُلِبَ على أمره، وفشل في مشـروعه.
وهذا هو ما يريده إبليس منهم، ففي الحالات الخطيرة تؤدّي بالإنسان إلى الإلحاد المعلن، أو إيجاد الرؤية الخاطئة بأنَّ الدين من معوِّقات التقدّم والنهوض، حيث يرى المؤمنين مستضعفين، وبعض حالاتها المخفَّفة تؤدّي إلى مهالك أقلّ خطورةً.
فحينما يعلم الله أنَّ الفئة المؤمنة والمسلمة ستمرُّ عليهم حقبة من الزمن يتحمَّلون فيها الأذى والألم والمرارة من الفئة الكافرة والظالمة، وأنَّ معالم الخطّ الإلهي ستُقهَر في مقابل المدّ الشيطاني الإبليسـي، ويكون له الدور البارز والدولة المعلنة، فلكي لا يفقد المؤمنون الأمل ولا ييأسوا من النصـر الإلهي، يُنبؤهم الله بمستقبل أمرهم من النجاح والنصر.
ولنذكر بعض النماذج من دعاوي الملحدين:
قال أحدهم: (استوقفتني الآية التالية: (إِنَّ اللهَ يُدافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا) (الحجّ: ٣٨)، واقع الحال بأنَّ الله لم يعد يدافع عن الذين آمنوا، بل العكس، فهم من جنَّدوا أنفسهم للدفاع عنه، وهل نعقل أنَّ الله يدافع عن الذين آمنوا ولكنَّه محدود القدرة!؟ أين مظاهر الدفاع عنهم!؟)(١).
وعن آخر: (إنَّ الشـريعة الإسلاميَّة من أكبر معوِّقات التقدّم والنهوض، وإنَّ اتِّباعها يؤدّي إلى التخلّف عن ركب الحضارة)(٢).
وثالث يصف الله تعالى في روايته التي نشرتها وزارة الثقافة المصرية بالفنّان الفاشل(٣)!
قال أحد الكتّاب الباحثين عن أسباب انتشار ظاهرة الإلحاد: (مسألة وجود الشـرِّ من أقدم المسائل التي تحدَّث حولها الفلاسفة المؤمنون، فالشـرُّ حاضر في عالمنا الذي يملؤه القتل والظلم، وتوجد فيه الأمراض والآفات وشتّى أنواع الشرور.
بعض شبابنا يترك الدين أو يشكُّ به لأجل الواقع السيّئ الذي يعيشه المسلمون، وبسبب ما نعانيه من تخلّف سياسي واقتصادي ونهضوي، فهذا الشاب المسكين يتسائل بحرقة وسذاجة: لو كان الدين الإسلامي هو الحقُّ، فلماذا نحن في ذيل الأُمم؟ ولماذا نحن الأكثر تخلّفاً(٤)؟
وقد يؤدّي بهم إلى تقديس شيطان باعتباره قوَّة منافسة لله تعالى، بل قد كان له نصيب الأسد في الدنيا، فقد جاء في تاريخ عبّاد الشيطان:
(هذا الفكر المنحرف فكر قديم، ولكن اختلف المؤرِّخون في نشأته وبداية ظهوره، فذهب بعضهم إلى أنَّه بدأ في القرن الأوَّل للميلاد، وهؤلاء كانوا ينظرون إلى الشيطان على أنَّه مساوٍ لله تعالى في القوَّة والسلطان. ثمّ تطوَّر هؤلاء إلى الذين كانوا يؤمنون بأنَّ الشيطان هو خالق هذا الكون! وأنَّ الله لم يقدر على أخذه منه، وبما أنَّهم يعيشون في هذا الكون فلا بدَّ لهم من عبادة خالقه (المزعوم) إبليس)(٥).
فوائد التبشير الإلهي:
وفي هذا التبشير الإلهي والإنباء بالنجاح المستقبلي عدَّة فوائد:
أوَّلاً:
إنَّه يحافظ على إيمان الفئة المؤمنة ويُثبِّت عزائمها في الاعتقاد بالله تبارك وتعالى ونجاح المشروع الإلهي، حيث إنَّ فقدان الأمل بالمستقبل يجعل الإنسان يُخيَّل إليه أنَّ المشـروع الإلهي قد أصابه الفشل في تخطيطه، وأنَّ المشـروع الناجح هو المشـروع الآخر الذي يرى فيه الغلبة الظاهرية فيكفر بالله ويؤمن بالطاغوت!
وثانياً: إنَّه يمانع المجتمعات المؤمنة من الذوبان في الهجوم الغاشم والمدّ الغالب من الخطِّ المعادي، وذلك أنَّ الناس بطبعهم يريدون النصـر والنجاح، فحينما يحصل لهم اليأس من نجاح مشـروعهم لغلبة الطرف الآخر وكونهم مقهورين مضطهدين، فإنَّهم سيرفعون اليد عن هويَّتهم الإيمانية ويصيرون على شاكلة الخطِّ الغالب الذي يرونه ناصراً وناجحاً.
وثالثاً: إنَّه يرسم أمامهم صفحة بيضاء عن المستقبل فيتحرَّكون نحوه، وذلك أنَّ وقود حركة المجتمع هو الأمل بالمستقبل، والأُمَّة التي فقدت الأمل بنجاحها في المستقبل تكون ميِّتة لا تتحرَّك قيد شبر، لأنَّها ترى نفسها تضمحلّ وتنتهي.
ورابعاً: إنَّه يُسهِّل على المومنين تحمّل كلّ هذا الأذى والجور والمصائب التي تصل إليهم من الفئة الظالمة الطاغوتية، فيما يرون أنَّ مستقبل الأمر يكون بيدهم، ومهما مدَّ الطاغي في الجور باعه إلَّا أنَّه لن يفوته المستقبل، فإنَّ العاقبة للمتَّقين.
وغيرها من الفوائد المهمَّة التي رأينا أنَّها تُشكِّل العمود الفقري للحفاظ على كيان المؤمنين وهويَّتهم الإيمانية وإيمانهم بالله وبرسله وبكتبه، وبخلاف ذلك لا يبقى لهم كون ولا كيان.
التبشير الإلهي في الأمم السابقة:
من هنا لا تجد فترة من الفترات وحقبة من الزمن الذي ابتلي فيه المؤمنون والصالحون إلَّا وقد بشَّـرهم الله بالنجاح، وأنَّ مع العسـر يسـراً، وأنَّ عاقبة الأمر تعود إليهم، فلا يحزنهم جور الجائرين، ولا يفقدون الأمل بالمستقبل. بل نرى أنَّه تعالى قبل مجيء أوان الابتلاء والتمحيص والمصيبة يبدء بالتبشير، ليستحكم في نفوسهم، فلا يزلزل إيمانهم بعد ما لاح في الأُفق علامات المصيبة والشدَّة والبلاء والمحنة.
بداية محنة يعقوب (عليه السلام) ببشارة الظفر وتمكين يوسف (عليه السلام) في الأرض:
حينما قدَّر الله تعالى ليعقوب ويوسف عليهما السلام المحنة والبلاء، هذا يُبتلى بفراق ذاك والآخر يُلقى في غيابات الجبّ ثمّ يؤسر فيباع فيُستَخدم ويُسجَن مع كلِّ ما فيها من هنات وهنات، حتَّى ابيضَّت عينا يعقوب (عليه السلام) من حزن فراق يوسف (عليه السلام)، فقبل نزول البلاء بآل يعقوب (عليه السلام) بشَّـرهم الله بالتمكين في الأرض والظفر ليوسف ويعقوب عليهما السلام، فكانت هذه البشارة الإلهية هي الباعثة للصبر والحركة.
قال الله تعالى: (إِذْ قالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَـرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ) (يوسف: ٤).
ففسَّـرها يعقوب (عليه السلام) بأنَّها بشارة بالاصطفاء والتمكين في الأرض، وأنَّ الله تعالى سيُمكِّن له في الأرض، وتذلُّ له أعناق الجبابرة، ليكون مصلحاً في الأرض، ويكون زوال جور الفراعين وبسط العدالة الاقتصادية على يديه.
هذه البشارة ولَّدت نقطة أمل بيضاء في قلب يعقوب (عليه السلام)، وكذلك في قلب يوسف (عليه السلام)، فاستعدّا لتحمّل الأذى والقساوة من الخطِّ المعادي المتمثِّل في إخوة يوسف (عليه السلام)، ولم ينفد صبرهما إلى نهاية المسير، فجدّا في السير والحراك رغم شدَّة المصائب.
في رواية أبي الجارود، عن أبي جعفر (عليه السلام)، قال: (تأويل هذه الرؤيا أنَّه سيملك مصـر، ويدخل عليه أبواه وإخوته، أمَّا الشمس فأُمُّ يوسف راحيل، والقمر يعقوب، وأمَّا أحد عشـر كوكباً فإخوته، فلمَّا دخلوا عليه سجدوا شكراً لله وحده حين نظروا إليه، وكان ذلك السجود لله)(٦).
وهذه البشارة في الحقيقة بشارة ليعقوب (عليه السلام) بأنَّ الله تعالى سيصطفي ابنه يوسف (عليه السلام) ويُمكِّنه في الأرض ليكون مصلحاً في الناس، فشـرح الله تعالى صدر يعقوب (عليه السلام) بهذه البشارة.
يعقوب (عليه السلام) سنَّ سُنَّة الانتظار:
ثمّ إنَّ يعقوب (عليه السلام) جعل هذه البشارة الإلهية نصب عينيه طول تلك السنين، فكانت الحافظ لإيمانه. وحينما عوتب على أمله بعودة ولده يوسف (عليه السلام) وتمكين الحكم الإلهي في الأرض على يديه ونسب إلى الغلوِّ في إظهار الحزن والبكاء والانتظار، أجابهم بصـرامة قاطعة أنَّه يعلم من الله ما لا يعلمون، وأنَّه لا ييأس من روح الله إلَّا القوم الكافرون، فأمرهم بالجدِّ في البحث عن يوسف (عليه السلام) والتحسّس منه.
قال تعالى: (وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يا أَسَفى عَلى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْناهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ * قالُوا تَاللهِ تَفْتَؤُا تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهالِكِينَ * قالَ إِنَّما أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ * يا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللهِ إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ) (يوسف: ٨٤ - ٨٧).
فصار الانتظار لمجيء المصلح السماوي في جميع الأزمنة أُسوة بيعقوب (عليه السلام)، بينما قد كان ضرب اليأس والخيبة أوتاده في قلوب كثيرين فأوقفهم عن الحركة وجعلهم ينقهرون أمام المدِّ الإبليسـي الغاشم.
وفي حكم القرآن بكفر الإياس عن روح الله تعالى دلالة واضحة على مدى أهمّية هذا التبشير الإلهي والإيمان بصدقه، وأنَّه لن يطول ظلام الليل حتَّى يلوح شعاع الشمس في الأُفق، فكان - الانتظار - المانع عن تورّطهم في الكفر بالرحمن (جلَّ جلاله).
بداية قصَّة موسى وهارون عليهما السلام بالتبشير والوعد بالتمكين:
ومن بعد يوسف (عليه السلام) حينما علم الله تعالى أنَّه ستغلب دولة الفراعنة وسيسوم المؤمنين سوء العذاب من البلاط الفرعوني يذلّونهم ويستضعفونهم، فقبل أن يُنزِل عليهم سوط العذاب الفرعوني، برَّد قلوبهم وطمأنهم بالنصـرة والظفر ليطمأنّوا بأنَّ عاقبة الأرض لهم، وهم الوارثون - لقصور فرعون - على يد نبيِّ الله موسى وهارون عليهما السلام، كيلا يضمحلّوا في الخطِّ الفرعوني لما يرون من شدَّة طغيانه وبطشه، فكانت هذه البشارة هي الحافظة لإيمانهم بالله ورسله وملائكته وكتبه، وهي الباعثة على العمل بمقتضـى إيمانهم. ولولا ذلك لم يبقَ منهم أحد إلَّا وقد أقبل إلى فرعون وأقرَّ له بالربوبية وأدبر عن إله يوسف ويعقوب وإبراهيم ونوح وآدم (عليهم السلام)، حينما يظنُّ أنَّ المشـروع الإلهي قد أُصيب بالفشل والانقهار، بينما المشـروع الإبليسـي صار له صوت وصيت.
قال الله تعالى في مفتتح ذكره لقصَّة موسى وهارون عليهما السلام:
(وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ * وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما مِنْهُمْ ما كانُوا يَحْذَرُونَ) (القصص: ٥ و٦).
ومن قبل ذلك بشَّـرهم يوسف (عليه السلام) بمجيء موسى بن عمران (عليه السلام)، وأخبرهم بفوزهم ونجاتهم ونصـرهم، وأنَّ فتح الدين وبسط العدل يكون على يديه، فكانوا يترصَّدون ويترقَّبون خروج شخص اسمه موسى بن عمران (عليه السلام).
عن محمّد الحلبي، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: (إنَّ يوسف بن يعقوب صلوات الله عليهما حين حضـرته الوفاة جمع آل يعقوب وهم ثمانون رجلاً، فقال: إنَّ هؤلاء القبط سيظهرون عليكم، ويسومونكم سوء العذاب، إنَّما ينجيكم الله برجل من ولد لاوي بن يعقوب اسمه موسى بن عمران بن فاهث بن لاوي، غلام طوال، جعد الشعر، آدم اللون، فجعل الرجل من بني إسرائيل، يُسمّى ابنه عمران، ويُسمّى عمران ابنه موسى)(٧).
وقد كان لعمران والد موسى (عليه السلام) موقفاً شريفاً یُنبئ عن قوَّة إيمانه وعدم حصول أيِّ ضعف ولا خلل عن العمل بوظيفته إثر الطغيان الفرعوني الغاشم، حينما كان يشاهد في وجوه البعض ملامح الضعف والفتور فكأنَّما خلص رصيدهم من الإيمان فتوقَّفت مركبة إيمانهم عن المسير.
ذكر أبان، عن أبي الحصين، عن أبي بصير، عن أبي عبد الله صلوات الله عليه أنَّه قال: (ما خرج موسى حتَّى خرج ثمانون كذّاباً من بني إسرائيل كلّهم يدَّعي أنَّه موسى بن عمران، فبلغ فرعون أنَّهم يُرجِفون به ويطلبون هذا الغلام، فقال له كهنته وسحرته: إنَّ هلاك دينك وقومك على يدي هذا الغلام الذي يُولَد العام من بني إسرائيل)، قال: (فوضع القوابل على النساء، فلمَّا رأى ذلك بنو إسرائيل قالوا: تعالَوا لا نقرب النساء، فقال عمران أبو موسى: آتوهنَّ فإنَّ أمر الله واقع ولو كره المشركون)(٨).
وعن أبي بصير، عن أبي جعفر (عليه السلام) أنَّه قال: (... فلمَّا رأى ذلك بنو إسرائيل قالوا: إذا ذبح الغلمان واستحيى النساء هلكنا، فلم نبقَ، فتعالَوا لا نقرب النساء، فقال عمران أبو موسى (عليه السلام): بل باشروهنَّ فإنَّ أمر الله واقع ولو كره المشـركون، اللّهمّ من حرَّمه فإنّي لا أُحرِّمه، ومن تركه فإنّي لا أتركه، ووقع على أُمِّ موسى فحملت)(٩).
وحينما بدأ موسى (عليه السلام) بالدعوة في قومه لم يبدأهم إلَّا بأن بشَّـرهم بالنصـر الإلهي، وأنَّ الوعد سيتحقَّق للمتَّقين، فكانت تلك البشارة بمنزلة وقود لحركتهم واتِّباعهم لنبيِّ الله موسى (عليه السلام) وتحمّل الأذى والمتاعب في سبيل نصرته.
قال الله تعالى: (قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الأَرْضَ لِلهِ يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) (الأعراف: ١٢٨).
بشارة الفتح والنصر لسيّد الأنبياء (صلّى الله عليه وآله وسلم) على يد ابنه الإمام المهدي (عليه السلام):
كما أنَّ الله تعالى حينما أرسل رسوله الخاتم كان يعلم ما يتحمَّل من الأذى من قومه، وأنَّه سيتحمَّل منهم ما لم يتحمَّله أيّ نبيّ آخر، فقال (صلّى الله عليه وآله وسلم): (ما أُوذي نبيٌّ بمثل ما أُوذيت)(١٠)، وأنَّه يعلم بأنَّه سوف يتغلَّب أولياء الشيطان وحلفاء إبليس على منبر خلافته وينزون عليها نزو القردة، قال تعالى: (وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَما يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْياناً كَبِيراً ) (الإسراء: ٦٠).
وقد وردت الروايات الكثيرة عن أهل البيت (عليهم السلام) تُفسِّـر الآية برجال السلطة من أصحاب السقيفة وبني أُميَّة الذين ردّوا الأُمَّة على أعقابها القهقرى، ففي ما راسله أمير المؤمنين (عليه السلام) معاوية بن أبي سفيان أن كتب له:
(ونزل فيكم قول الله (عزَّ وجلَّ): (وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ)، وذلك حين رأى رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) اثني عشـر إماماً من أئمَّة الضلالة على منبره، يردّون الناس على أدبارهم القهقرى، رجلان من حيين مختلفين من قريش، وعشـرة من بني أُميَّة، أوَّل العشـرة صاحبك الذي تطلب بدمه، وأنت وابنك وسبعة من ولد الحكم بن أبي العاص، أوَّلهم مروان، وقد لعنه رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) وطرده)(١١).
وفي تفسير عليّ بن إبراهيم، قال: نزلت (الآية) لـمَّا رأى النبيُّ (صلّى الله عليه وآله وسلم) في نومه كأنَّ قروداً تصعد منبره، فساءه ذلك وغمَّه غمّاً شديداً، فأنزل الله: (وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ) لهم ليعمهوا فيها، (وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ) كذلك نزلت، وهم بنو أُميَّة)(١٢).
وهنا روايات أُخرى(١٣).
بل قد أقرَّ بذلك جملة من رجال العامَّة، فقد قال العيني في شرحه على الصحيح البخاري: (وقيل: رأى رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) بني أُميَّة ينزون على منبره نزو القردة فساءه ذلك، فما استجمع ضاحكاً حتَّى مات، فأنزل الله‏ تعالى: (وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا...) الآية...، وروى ابن أبي حاتم من حديث عبد الله‏ بن عمرو أنَّ الشجرة الملعونة في القرآن الحكم بن أبي العاص وولده)(١٤).
ومن ذلك بدأ الله (جلَّ جلاله) رسالة رسوله (صلّى الله عليه وآله وسلم) ببشارة الفتح والنصـر والتمكين في الأرض، على يد ابنه الإمام المهدي (عليه السلام)، وهذه في الحقيقة بشارة لسيِّد الأنبياء وخاتمهم (صلّى الله عليه وآله وسلم)، على حذو بشارة الله ليعقوب (عليه السلام).
وهذه البشارة الإلهية لسيِّد الرسل ذُكِرَت في عدَّة من آيات القرآن نذكرها تباعاً:
١ - قال تعالى في ثلاثة مواطن من كتابه المجيد: (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ)(١٥).
عن عبد الرحمن بن سليط، قال: قال الحسين بن عليّ بن أبي طالب عليهما السلام: (منّا اثنا عشـر مهديّاً، أوَّلهم أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب، وآخرهم التاسع من ولدي، وهو الإمام القائم بالحقِّ، يُحيي الله به الأرض بعد موتها، ويُظهِر به دين الحقِّ على الدين كلّه ولو كره المشـركون، له غيبة يرتدُّ فيها أقوام ويثبت فيها على الدين آخرون، فيؤذون ويقال لهم: (مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ ) [يونس: ٤٨]، أمَا إنَّ الصابر في غيبته على الأذى والتكذيب بمنزلة المجاهد بالسيف بين يدي رسول الله صلّى الله عليه وآله)(١٦).
٢ - وقال تعالى: (وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضـى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْـرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ ) (النور: ٥٥).
عن يونس بن ظبيان، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: (إذا كان ليلة الجمعة أهبط الربُّ تعالى ملكاً إلى سماء الدنيا، فإذا طلع الفجر جلس ذلك الملك على العرش فوق البيت المعمور، ونصب لمحمّد وعليّ والحسن والحسين (عليهم السلام) منابر من نور، فيصعدون عليها، وتُجمَع لهم الملائكة والنبيّون والمؤمنون، وتُفتَح أبواب السماء، فإذا زالت الشمس قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم): يا ربِّ، ميعادك الذي وعدت به في كتابك، وهو هذه الآية: (وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضـى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً)، ثمّ يقول الملائكة والنبيّون مثل ذلك، ثمّ يخرُّ محمّد وعلي والحسن والحسين سُجَّداً، ثمّ يقولون: يا ربِّ، اغضب فإنَّه قد هُتِكَ حريمك، وقُتِلَ أصفياؤك، وأُذِلَّ عبادك الصالحون، فيفعل الله ما يشاء، وذلك يوم معلوم)(١٧).
٣ - نزلت سورة الفجر - وهي سورة الحسين (عليه السلام) - لتُعزّي سيِّد الرسل (صلّى الله عليه وآله وسلم) باستشهاد سبطه سيِّد الشهداء، وهو النفس المطمئنَّة التي خاطبها الله: (ادْخُلِي فِي عِبادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي ) (الفجر: ٢٩ و٣٠).
عن داود بن فرقد، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: (اقرأوا سورة الفجر في فرايضكم ونوافلكم، فإنَّها سورة للحسين بن علي عليهما السلام، من قرأها كان مع الحسين (عليه السلام) يوم القيامة في درجته من الجنَّة، إنَّ الله عزيز حكيم)(١٨).
وحسب ما ورد من تفسير أهل البيت (عليهم السلام) للسورة المباركة أنَّها تذكر دولة الغاصبين وغلبتهم على الأمر، ومن ثَمَّ بيان حال بعض الطغاة البائدين فرعون ذي الأوتاد، وأنَّ الله لهم بالمرصاد ولايفوت منه شيء، ثمّ عرَّج على بيان حال بعض طغاة هذه الأُمَّة الذين يأكلون التراث أكلاً لـمّاً ويحبّون المال حبّاً جمّاً، إلى أن خُتِمَت السورة بذكر مقتل النفس المطمئنَّة ورجوعها إلى ربِّها راضيةً مرضيةً.
عن أبي بصير، عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قوله: (يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي) [الفجر: ٢٧ - ٣٠] يعني الحسين بن علي عليهما السلام)(١٩).
من أجل ذلك بدء الله (جلَّ جلاله) بتبشير حبيبه (صلّى الله عليه وآله وسلم) بفجر ظهور ولده الإمام المهدي (عليه السلام)، حيث ورد في تفسير السورة المباركة أنَّ الفجر كناية عن دولة الإمام المهدي (عليه السلام)، ومن ثَمَّ ذكر دولة السقيفة وامتدادها إلى فجر الظهور وشبهاً بالليل الذي يسير وينتهي أمده بمجيء الشمس فيرتفع الظلام.
قال تعالى: (وَالْفَجْرِ * وَلَيالٍ عَشْـرٍ * وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ * وَاللَّيْلِ إِذا يَسْـرِ * هَلْ فِي ذلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ) (الفجر: ١ - ٥).
عن جابر بن يزيد الجعفي، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: (قوله (عزَّ وجلَّ): (وَالْفَجْرِ) هو القائم (عليه السلام)،ـ (وَلَيالٍ عَشْـرٍ) الأئمَّة (عليهم السلام) من الحسن إلى الحسن، (وَالشَّفْعِ) أمير المؤمنين وفاطمة عليهما السلام،ـ (وَالْوَتْرِ) هو الله وحده لا شريك له، (وَاللَّيْلِ إِذا يَسْـرِ) هي دولة حبتر، فهي تسـري إلى قيام القائم عليه السلام)(٢٠)، ودولة حبتر كناية عن دولة الغاصبين لمقام الخلفاء الإلهيين(٢١).
قال العلَّامة المجلسی رحمه الله: (لعلَّ التعبير بالليالي عنهم (عليهم السلام) لبيان مغلوبيتهم واختفائهم خوفاً من المخالفين)(٢٢).
ومن أمثال ذلك الكثير من الآيات التي نزلت لتُبشِّـر رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) حينما علم غلبة دولة الظالمين والغاصبين، فهو (صلّى الله عليه وآله وسلم) أوَّل من بشَّـره الله بالنصـر والفتح المهدوي على يد ابنه التاسع من ولد الحسين (عليهم السلام)، وذلك لما عليه من مسؤولية إظهار الدين وتربية الخلق وتزكيتهم وتعليمهم الكتاب والحكمة، فلا ييأس حينما يرى غلبة الجهّال ودولة الضلال.
بشارة الله تعالى نبيّه (صلّى الله عليه وآله وسلم) بالرجعة:
وليُعلَم أنَّ هذه البشارة الإلهية ليست بشارة بظهور ومجيء الإمام الثاني عشـر فحسب، بل هي بشارة بنهاية دولة الظلم والظلام على يد الإمام المهدي (عليه السلام)، وبداية مسـرح جديد من دولة الأئمَّة والرسول (عليهم السلام) برجوعهم إلى الدنيا ليتمَّ تحقيق الوعد الإلهي بيدهم.
وذلك في عدَّة من الآيات:
١ - قال تعالى: (إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ) (القصص: ٨٥).
عن المعلّى بن خنيس، قال: قال لي أبو عبد الله (عليه السلام) في قول الله (عزَّ وجلَّ): (إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ)، قال: (نبيُّكم (صلّى الله عليه وآله وسلم) راجع إليكم)(٢٣).
قال عليّ بن إبراهيم: وحدَّثني أبي، عن أحمد بن النضـر، عن عمر بن شمر، قال: ذُكِرَ عند أبي جعفر (عليه السلام) جابر فقال: (رحم الله جابراً، لقد بلغ من علمه أنَّه كان يعرف تأويل هذه الآية: (إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ) يعني الرجعة)(٢٤).
عن أبي مروان، قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قول الله (عزَّ وجلَّ): (إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ)، قال: فقال لي: (لا والله، لا تنقضـي الدنيا ولا تذهب حتَّى يجتمع رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) وعليّ (عليه السلام) بالثوية، فيلتقيان ويبنيان بالثوية مسجداً له اثنى عشـر ألف باب) يعني موضعاً بالكوفة(٢٥).
٢ - قال تعالى: (وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً) (سبأ: ٢٨).
عن صالح بن ميثم(٢٦)، عن أبي جعفر (عليه السلام)، قال: قلت له: حدِّثني، قال: (أليس قد سمعت الحديث من أبيك)، قلت: هلك أبي وأنا صبي، قال: قلت: فأقول فإن أصبت قلتَ نعم، وإن أخطأت رددتني عن الخطأ، قال: (هذا أهون)، قلت: فإنّي أزعم أنَّ عليّاً (عليه السلام) دابَّة الأرض، قال: فسكت، قال: فقال أبو جعفر (عليه السلام): (وأراك والله ستقول: إنَّ عليّا (عليه السلام) راجع إلينا)، وقرأ: (إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ) [القصص: ٨٥]، قال: قلت: والله لقد جعلتها فيما أُريد أن أسألك عنها فنسيتها، فقال أبو جعفر (عليه السلام): (أفلا أُخبرك بما هو أعظم من هذا؟ (وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً)، لا تبقى أرض إلَّا نودي فيها بشهادة أن لا إله إلَّا الله، وأنَّ محمّداً رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم))، وأشار بيده إلى آفاق الأرض(٢٧).
٣ - بل إنَّ النذارة الكبرى لرسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) لا تتمُّ إلَّا في رجعته، قال تعالى: (يا أَيـُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنْذِرْ) (المدَّثِّر: ١ و٢).
عن جابر بن يزيد، عن أبي جعفر (عليه السلام) في قول الله (عزَّ وجلَّ): (أَيـُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنْذِرْ): ( يعني بذلك محمّداً (صلّى الله عليه وآله وسلم) وقيامه في الرجعة ينذر فيها)(٢٨).
البشارة بظهور الإمام المهدي (عليه السلام) في خطبة الغدير:
ثمّ إنَّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) بعد أن بلَّغ يوم الغدير ولاية أخيه الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام)، وعيَّن أوصياءه الاثني عشـر (عليهم السلام)، وأخذ من الناس العهد بذلك، بشَّـرهم بأنَّ الثاني عشـر (عليه السلام) هو الذي يُظهِر الله تعالى دينه على يديه، وأنَّه ينتقم من الظالمين، ليقوّي إيمان المؤمنين ولا يُزلزلوا حينما يرون الغلبة الظاهرية لدولة الجور فيما بعده (صلّى الله عليه وآله وسلم)، حيث قال (صلّى الله عليه وآله وسلم):
(معاشر الناس، إنّي نبيٌّ وعليٌّ وصيِّ، ألَا إنَّ خاتم الأئمَّة منّا القائم المهدي، ألَا إنَّه الظاهر على الدين، ألَا إنَّه المنتقم من الظالمين، ألَا إنَّه فاتح الحصون وهادمها، ألَا إنَّه فاتح كلَّ قبيلة من الشـرك، ألَا إنَّه مدرك بكلِّ ثار لأولياء الله (عزَّ وجلَّ)، ألَا إنَّه الناصـر لدين الله، ألَا إنَّه الغراف من بحر عميق، ألَا إنَّه يسم كلَّ ذي فضل بفضله وكلَّ ذي جهل بجهله، ألَا إنَّه خيرة الله ومختاره، ألَا إنَّه وارث كلَّ علم والمحيط بكلِّ فهم، ألَا إنَّه المخبر عنه ربّه تعالى والمشبه لأمر إيمانه، ألَا إنَّه الرشيد، ألَا إنَّه المفوَّض إليه، ألَا إنَّه الباقي حجَّة ولا حجَّة بعده ولا حقَّ معه إلَّا معه ولا نور إلَّا عنده، ألَا إنَّه لا غالب له ولا منصور عليه، ألَا إنَّه وليُّ الله في أرضه، وحكمه في خلقه، وأمينه في سره وعلانيته)(٢٩).
والظاهر أنَّه (صلّى الله عليه وآله وسلم) يشير في خطبته الشـريفة إلى تفسير جملة من آيات القرآن المبشِّـرة بظهور دينه على الدين كلّه، وأنَّ نور الله سيملؤ السماوات والأرض بيد خاتم الأئمَّة القائم المهدي (عليه السلام). وفي إصراره على أنَّه المنتقم من الظالمين والمدرك بثأرهم، وأنَّه فاتح الحصون وهادمها، إشارة واضحة إلى غلبة دولة الجور والظلم بعده، وأنَّ المؤمنين سيُهضَمون ويُضطَهدون تحت وطأة الجبّارين، لكنَّه طمأنهم ليتيقَّنوا بأنَّه لا تطولنَّ ظلمة ليل داج، وسيأتي من ينتقم لهم، وسيتحقَّق الوعد الإلهي، وينصر دين الله، ويملؤ الأرض قسطاً وعدلاً بعد ما مُلِئَت ظلماً وجوراً.
وهذه البشارة النبويَّة تحافظ على إيمان المؤمنين من أن يذوب في ظلمة الكفر الغالب، وتكون وقودهم للحركة في ظلمة الليل البهيم، كما أنَّه يُسهِّل عليهم تحمّل الصعاب والمشاقّ التي تصل إليهم من المتغلّبين على كرسي خلافة الله (عزَّ وجلَّ).
فوائد الانتظار والاطمئنان بتحقّق النصر الإلهي:
١ - الاطمئنان بالوعد الإلهي من قوَّة الإيمان بالله تعالى، فإنَّ الأمل والانتظار حالة توحيدية، ففي كبد الحدث والتصدّي موقن بأنَّ الله تعالى سيُظهِر أمره، وأنَّه تعالى لم يفلت من يده الأُمور.
٢ - إنَّ الله تعالى لم يُخلِق العالم كي يُباد، ويظهر الفساد في برِّه وبحره بظلم الطواغيت وفساد المفسدين، لو كان كذلك لكان التدبير الإلهي فاشلاً، وهذا هو الذي يريده الشيطان، إنَّه يريد منّا أن ننسب الفشل إلى التدبير الإلهي المتقن.
فالانتظار واليقين بأنَّ الله تعالى غالب على أمره، وأنَّ عاقبة الأمر في هذه الدنيا تكون للمتَّقين ويحافظ بها من الوقوع في الكفر.
٣ - الأمل والانتظار وقود الحركة، والحراك مع فقدان الأمل يجمّد الحركة.
ولولا إیمان یعقوب (عليه السلام) وأمره بالتحسّس عن یوسف (عليه السلام) ونهیه عن الیأس عن روح الله تعالى لما تحرَّك إخوة یوسف (عليه السلام) في طلبه، حينما خاطبهم قائلاً: (يا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللهِ إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ ) (يوسف: ٨٧).
٤ - جعل اليأس علامة الكفر لأنَّه ظنّ الإفشال في التخطيط الإلهي، وأنَّه ليس هو الغالب على أمره.
ومن أجل ذلك جعل يعقوب (عليه السلام) اليأس من نجاح المشـروع الإلهي علامة الكفر فقال: (إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ).
٥ - كما أنَّه لولا إيمان عمران والد موسى (عليه السلام) بالوعد الإلهي في خضم الظلم الفرعوني المتشدِّد ويقينه لم يبقَ مؤمن من بني إسرائيل إلَّا وقد أصابه الكلل والملل، ولتوقَّفوا عن الحركة في سبيل الله تعالى، ولتجمَّدت طاقاتهم، ثمّ لم يكن ليُولَد موسى بن عمران (عليه السلام) لولا ذلك الأمل بالوعد الإلهي لينجيهم من الظلم الفرعوني، ويهديهم إلى صراط المستقيم.
وذلك أنَّ تقدير الله تعالى المحكم ليس بجبر ولاتفويض، بل أمر بين الأمرين، فاذا توقَّفت البشرية عن الحراك والعمل سوف لن يصلهم المدد الإلهي.
٦ - عدم الأمل بزوال الطاغوت يوجب الذوبان في الباطل والطاغوت والظلم.
فإنَّ الحكمة الإلهية تقتضـي أن تكون للظالم جولة في الأرض ليتمَّ الابتلاء والافتتان، ولكنَّه لو لم يكن أمل وتبشير إلهي للمؤمنين سوف يذوب المجتمع الإيماني في ظلم الطاغوت وانحرافه. فإنَّه يرى نفسه ميِّتاً لا حراك له في هدفه المنشود، لأنَّه لا يأمل الوصول إليه، وهذا يوجب الشعور بالنقص والضعف في سبيل الله (عزَّ وجلَّ)، فيسعى ليُطبِّق نفسه على الواقع الموجود من غلبة المدِّ الإبليسـي الغاشم.
٧ - وفي مقابله - الأمل بالنصـر الإلهي - يوجب الصلابة في الإيمان وعدم التخلّي عن المسؤولية، فالمنتظر يرى نفسه ناجحاً حتَّى في أسوأ التقادير فإنَّ العاقبة للمتَّقين، فيرى نفسه حيّاً غالباً وناجحاً، وأنَّ ما اختاره من نهج الأنبياء (عليهم السلام) له الغلبة، فلا يتخلّى عن القيام بالمسؤولية قيد شبر حتَّى ولو بلغ الظلم ما بلغ.
الانتظار حافظ للتوحيد وقوّة في الإيمان:
كيف تتوقَّع من الأُمِّ أن تُلقي ولدها في البحر المتلاطم، ثمّ لا تفقد الأمل بتحقيق النصـر الإلهي لولا إيمانها ويقينها بأنَّ الله تعالى هو الغالب على أمره وأنَّ العاقبة للمتَّقين.
فإنَّ أُمَّ موسى لم تكن لتُلقي ابنها في اليمِّ لو لم يكن ملأ قلبها الأمل واليقين بالوعد الإلهي، وهذا عمل صعب جدّاً، قال تعالى: (وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ ) (القصص: ٧).
حتَّى أنَّ إيمان الملائكة بالله وتوحيدهم له تعالى استحكم واستقرَّ بالانتظار واليقين بانتصار خليفة الله على أولياء الشيطان.
ففي يوم عاشوراء حينما مدَّ الجور باعه، وأسفر الظلم قناعه، ونادى الغيُّ أتباعه، فبلغ الظلم لأعلى مستواه مذ خلق الله الدنيا إلى يوم الانقضاء - مصيبة ما أعظمها وأعظم رزيَّتها في الإسلام وفي جميع السماوات والأرض -، حيث قد اهتزَّت أظلَّة العرش حزناً على تلك الدماء الطاهرة، واقشعرَّت لها أظلَّة الخلائق، وزلزلت الأرض زلزالها، رأت الملائكة ذاك الموقف، وأنَّ سيِّد شباب أهل الجنَّة طريح الأرض، قد سكنت حواسّه، وخفيت أنفاسه، ولم تتحمَّل ذلك، فضجت لله تعالى حيث ترى وكأنَّ مشروع الاستخلاف الإلهي قد أُهبط وخُذِلَ، فالله (جلَّ جلاله) حافظ على إيمان الملائكة في يوم عاشوراء بأن أراهم نور الإمام المهدي (عليه السلام) وقال: (بهذا أنتقم)، ليطمئنّوا بأنَّه لا يفوته هارب، وأنَّه على كلِّ شيءٍ قدير.
في الكافي بإسناده عن محمّد بن حمران، قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): (لـمَّا كان من أمر الحسين (عليه السلام) ما كان، ضجَّت الملائكة إلى الله بالبكاء، وقالت: يُفعَل هذا بالحسين صفيّك وابن نبيّك؟)، قال: (فأقام الله لهم ظلَّ القائم (عليه السلام) وقال: بهذا أنتقم لهذا)(٣٠).
روي عن الصادق (عليه السلام) أنَّه قال لبعض أصحابه: (كن لما لا ترجو أرجى منك لما ترجو، فإنَّ موسى بن عمران (عليه السلام) خرج ليقتبس لأهله ناراً، فرجع إليهم وهو رسول نبيّ، فأصلح الله تبارك وتعالى أمر عبده ونبيِّه موسى في ليلة، وكذا يفعل الله تعالى بالقائم الثاني عشـر من الأئمَّة (عليهم السلام)، يُصلِح الله أمره في ليلة كما أصلح الله أمر موسى (عليه السلام)، ويُخرجه من الحيرة والغيبة إلى نور الفرج والظهور)(٣١).
فالرجاء هو قمَّة الإيمان بالله تعالى، وأنَّه لن يفلت الأُمور من يده، وأنَّه على كلِّ شيءٍ قدير. ومن ذلك جعل تحقيق وعده من خلال أسباب لا يُتوقَّع منها النجاح ليُظهِر قدرته، فلا يطمئنُّ المؤمنون ولا يستريحوا إلى الطغاة. فالمؤمن لا يفقد الرجاء وحسن الظنِّ بالله تعالى حتَّى ولو كان في كبد الشدائد والظلمات، فإنَّ الله تعالى أراد أن يُظهِر للناس قدرته، وأنَّه غالب على أمره، ولا يُعجِزه شيء، كما أنَّه لا يخاف الفوت. فترى أنَّه تعالى حفظ نبيَّه موسى بن عمران (عليه السلام) المنقذ لبني إسرائيل من ظلم فرعون في أحضان فرعون، مع أنَّه كان بإمكانه أن يحفظه في مكان بعيد، لكنَّه فعل ذلك لكيلا يفقد المؤمنون الرجاء بالله تعالى وتحقّق النصـر الإلهي حتَّى من عمق وأعماق أحضان فرعون.
قال تعالی: (فَرَدَدْناهُ إِلى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَلا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) (القصص: ١٣).
زينب الكبرى عليها السلام، وما أدراك من هي! ما الذي جعلها تصـرخ في وجه يزيد وتتحدّاه في مجلس مُلِئَ بأجواء الرعب أمام أُناس لم يستنكفوا عن قتل الرضيع والصغير والكبير والرجال والنساء، وتقول مخاطبة إيّاه:
(كد كيدك، واجهد جهدك، فوَالله الذي شـرَّفنا بالوحي والكتاب، والنبوَّة والانتخاب، لا تُدرِك أمدنا، ولا تبلغ غايتنا، ولا تمحو ذكرنا، ولا يرحض عنك عارنا، وهل رأيك إلَّا فند، وأيّامك إلَّا عدد، وجمعك إلَّا بدد، يوم يناد المنادي: ألَا لعن اللهُ الظالمَ العادي)(٣٢).
إنَّها قوَّة الإيمان واليقين بالله تعالى، وأنَّه هو الغالب على أمره، وأنَّ العاقبة تكون لأهل البيت (عليهم السلام) مهما بالغ يزيد في جدِّه وجهده لطمسهم، وهذا هو الإيمان والتوحيد الذي لا يمكن أن يتزلزل ويتزعزع رغم كلّ هذه المصائب والمشاكل والأحزان، وفي وسط معمعة حفل العدوِّ المعدِّ لإخافة الناس وإظهار قدرته وبطشه.
إلَّا أنَّ زينب عليها السلام أهانته وذلَّته بكلِّ صرامة وصراحة وشجاعة، وذكَّرته بإبادته وزوال حكمه، وهذا الموقف ينبئ عن إيمان وثقة بالله تعالى قلَّ نظيرها، بل لم يُرَ له نظير في تاريخ رجالات السماء في قبال أولياء الشياطين.
محاولات العدوّ لبثّ روح اليأس:
الأمر الأوَّل:
قال تعالى: (الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ وَاللهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلاً وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ ) (البقرة: ٢٦٨).
من أكبر ما يسعى الشيطان والفِرَق الشيطانية والماسونية لبثِّه ونشـره هو نسبة الإفشال إلى المخطَّط الإلهي، وأنَّ الأنبياء (عليهم السلام) فشلوا وما استطاعوا أن يصنعوا شيئاً، فإذا ترسَّخ في عقلية الإنسان أنَّ التخطيط الإلهي فاشل فحتَّى لو يؤمن به لكنَّه سيتركه ويتَّبع من يراه غالباً على أمره وله القدرة على تطبيق مشروعه على أرض الواقع.
ومن هنا تنشأ فِرَق عبّاد الشيطان.
ولا نستغرب أنَّهم يدعون للشـرِّ والفحشاء وفعل المنكر والقبيح، لأنَّ الإنسان بطبعه ينجذب إلى القدرة، فإذا تعقلنَ عنده أنَّ الغلبة تكون لدولة إبليس لما يرى من ظهور الفساد في البرِّ والبحر وهو أمل إبليس، بينما هو لا أمل له في نجاح مشـروعه الإلهي، فييأس من قدرة الله ويُلقي بنفسه في أحضان إبليس يلتجئ إليه ويطلب من عنده السند والاستناد.
والأمر الثاني:
أنَّ إبليس رأى أنَّ إبعاده عن ملكوت السماوات والقرب الإلهي إنَّما لأجل مشـروع إسكان خليفة الله تعالى في الأرض، فمذ خلق الله تعالى الخليفة أمره الله (عزَّ وجلَّ) بالسجود له، فآلت الأُمور إلى ما آلت من إبائه عن ذلك، ومن ثَمَّ طرده ولعنه إلى يوم الدين.
فمن أجل ذلك أضمر العداوة لخليفة الله تعالى ولمشـروع إسكانه في الأرض، فيبذل قصارى جهده ليُثبِت بأنَّ الله (عزَّ وجلَّ) فاشل في تقديره هذا، ويريد لينسب إلى الله (جلَّ اسمه) ارتكاب الخطأ في جعله الخليفة في الأرض. وهذا إنَّما يتمُّ له إذا فقد الناس الأمل باستقرار حكومة خليفة الله تعالى في الأرض، واطمأنّوا بأنَّ الغلبة تكون لجنود إبليس.
لكن الذي يُعرقِل هذه الخطَّة الإبليسية الخطيرة هو التبشير الإلهي والأمل بظهور أمر الله تعالى، وأنَّ الله (عزَّ وجلَّ) لا يخاف الفوت، ولا يفوته هارب، وإنَّما يستعجل من يخاف الفوت، قال تعالى لطمأنة أوليائه:
(وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ) (القصص: ٥).
ومن هنا يتبيَّن سرُّ هذا التبشير الإلهي، وحفظ حالة الانتظار والأمل.
اُنظر إلى إخوة يوسف (عليه السلام) وتعييرهم انتظار يعقوب (عليه السلام) لرجوع يوسف (عليه السلام)، كم أنت تنتظر هذا الغائب!؟
قال تعالى:( قالُوا تَاللَّهِ تَفْتَؤُا تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهالِكِينَ * قالَ إِنَّما أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ) ( يوسف: ٨٥ و ٨٦).
وهذا ما نشاهده اليوم، بل في طول الغيبه الكبرى من تعيير المخالفين أنَّكم إلى متى سوف تنتظرون هذا الإمام الغائب؟ وما ذلك إلَّا لبثِّ روح اليأس عن روح الله تعالى، وفقد الأمل بنجاح مشـروع خليفة الله تعالى على الأرض، ولكن يعقوب (عليه السلام) لشدَّة إيمانه بالله (عزَّ وجلَّ)، وأنَّه لا يخلف الميعاد، أجابهم بكلِّ صرامة أنَّه يعلم من الله ما لا يعلمون، وأنَّه سوف يشكو بثّه وحزنه إلى الله العليّ القدير.
الانتظار سرّ قوّة المذهب:
قال (فرانسوا توال) الخبير الاستراتيجي الفرنسي:
(إنَّ المهدوية فكرة دينية ذات مصادر شرعية تتحدَّث عن مصير العالم أجمع، لا تتقيَّد ببقعة من الأرض ولا جماعة من البشـر، بل هي تتحدَّث عن العدالة التي ينشدها جميع البشـر على اختلاف معاناتهم ودرجات مظلوميتهم أيّاً كان بلدهم، وعن الحقِّ الذي يجب أن يسود العالم إتماماً للحجَّة على الخلق وإنفاذاً لوعده: (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْـرِكُونَ ) (التوبة: ٣٣)).
ثمّ قال: (إنَّ الأحداث أثبتت أنَّه بالرغم من كلِّ الممارسات القمعية التي مورست ضدّ الشيعة، فإنَّ هذه الظاهرة - ظاهرة التشيّع - ليست بأيِّ حالٍ من الأحوال قابلة للخمود والوهن. وهي متماسكة إلى الحدِّ الذي يضمن حمايتها من الاضمحلال والتشتّت، كلُّ شخص سيُدرِك بيُسـر ووضوح أنَّ مذهب التشيّع بما يتمتَّع به من بناء عقيدي وفكري سيكون قادراً على تغيير الثوابت السياسية في العالم)(٣٣).
الحذر قبل وقوع البلاء:
لقد أنبأنا الوحي الإلهي بوقوع فتن وابتلاءات ومصائب شديدة في عصـر غيبة الإمام الثاني عشر (عليه السلام)، على حذو ما كان في بني إسرائيل حيث كان يُذبَح أبناؤهم وتُسبى نساؤهم.
فقد ورد فی الحديث القدسي المعروف بحديث اللوح في وصف الإمام الثاني عشـر (عليه السلام) وغيبته:
(ثمّ أُكمل ذلك بابنه رحمةً للعالمين، عليه كمال موسى وبهاء عيسى وصبر أيّوب، ستذلُّ أوليائي في زمانه، ويتهادون رؤوسهم كما تهادى رؤوس الترك والديلم، فيُقتَلون ويُحرَقون ويكونون خائفين مرعوبين وجلين، تُصبَغ الأرض من دمائهم، ويفشو الويل والرنين في نسائهم، أُولئك أوليائي حقّاً، بهم أدفع كلّ فتنة عمياء حندس، وبهم أكشف الزلازل، وأرفع عنهم الآصار والأغلال، أُولئك عليهم صلوات من ربِّهم ورحمة، وأُولئك هم المهتدون)(٣٤).
وإنَّ من أهمّ فوائد هذا الإنباء الغيبي أنَّه يشدُّ أفئدة المؤمنين ويربط جأشهم حينما يقعون فريسة بأيدي الظالمين، وتعصف بهم عواصف الرزايا، فيأخذ بهم يميناً وشمالاً. وسوف لن تفاجأهم المشاكل والبلايا ليتوهَّموا أنَّ الله تعالى قد غلب على أمره وانتصـر حزب الشيطان على حزب الله، فتذهب بنور إيمانهم. بل سيواجهون المصائب بكلِّ قوَّة واطمئنان بالنصـر الموعود ولاتزلزلهم العواصف، ومن هنا صار المؤمن أشدُّ من الجبال الراسية، فإنَّها تزول عن مكانها لكنَّه لن يزول عن إيمانه.

 

 

الهوامش:
(١) (brainuser) في مقال عنه/ مجلَّة الرصد، ملحق ظاهرة الإلحاد (ص ١١٧).
(٢) أحمد أبو زيد في دراسة عن الملحدين الجدد، وثائق خطيرة عن قضايا ازدراء الأديان في مصـر/ مجلَّة الرصد، ملحق ظاهرة الإلحاد (ص ٨٨).
(٣) المصدر السابق.
(٤) البراء العوهلي في مقال عنه بعنوان (ظاهرة انتشار الإلحاد في صفوف شباب المسلمين)/ مجلَّة الرصد، ملحق ظاهرة الإلحاد (ص ٦٦).
(٥) محمّد الحمود النجدي، في مقال عنه في موقعه بعنوان (عبدة الشيطان اليزيدية)، بتصرّف.
(٦) تفسير القمّي ١: ٣٣٩.
(٧) قصص الأنبياء للراوندي: ١٥١/ ح ١٦٠.
(٨) المصدر السابق.
(٩) كمال الدين: ١٤٧ و١٤٨/ باب ٦/ ح ١٣.
(١٠) مناقب آل أبي طالب لابن شهر آشوب ٣: ٢٤٧.
(١١) كتاب سُلَيم بن قيس: ٣٠٧.
(١٢) بحار الأنوار ٣١: ٥١٤.
(١٣) اُنظر: الهداية الكبرى للخصيبي: ٧٦؛ الاحتجاج للطبرسي ١: ٤١٦؛ العمدة لابن بطريق: ٤٥٣/ ح ٩٤٣؛ بحار الأنوار ٣٠: ١٦٥ و٥٢٥.
(١٤) عمدة القاري ١٩: ٣٠.
(١٥) التوبة: ٣٣، الفتح: ٢٨، الصفّ: ٩.
(١٦) كمال الدين: ٣١٧/ باب ٣١/ ح ٣.
(١٧) الغيبة للنعماني: ٢٨٤/ باب ١٤/ ح ٥٦.
(١٨) ثواب الأعمال: ١٢٣.
(١٩) تفسير القمّي ٢: ٤٢٢.
(٢٠) تأويل الآيات الظاهرة: ٧٦٦.
(٢١) بحار الأنوار ٢٢: ٢٢٣.
(٢٢) بحار الأنوار ٢٤: ٧٨.
(٢٣) مختصر البصائر: ١٢٠.
(٢٤) تفسير القمّي ١: ٢٥.
(٢٥) مختصر البصائر: ٤٩٠.
(٢٦) صالح بن ميثم الكوفي الأسدي، مولاهم، تابعي، عدَّه البرقي والشيخ من أصحاب الباقر والصادق عليهما السلام، وقد روى عنهما عليهما السلام. (رجال البرقي: ١٥ و١٦؛ رجال الطوسي: الرقم (١٢٦/٢) و(١٢٨/٢).
(٢٧) مختصر البصائر: ٤٨٩.
(٢٨) مختصر البصائر: ١١٣.
(٢٩) روضة الواعظين للفتّال النيسابوري: ٩٧.
(٣٠) الكافي ١: ٤٦٥.
(٣١) بحار الأنوار ١٣: ٤٢.
(٣٢) الاحتجاج للطبرسي ٢: ٣٠٨.
(٣٣) جيئوبولتيك الشيعة، الشيعة في العالم/ فرانسواتوال/ ترجمة: كتايون صابر.
(٣٤) كمال الدين ١: ٣١٠.

التقييم التقييم:
  ٠ / ٠.٠
 التعليقات
لا توجد تعليقات.

الإسم: *
الدولة:
البريد الإلكتروني:
النص: *

 

Specialized Studies Foundation of Imam Al-Mahdi (A-S) © 2016