حوار مع الدكتور جواد علي
في كتابه المهدي المنتظر عليه السلام
الأستاذ الدكتور حسن عيسى الحكيم
النجف الأشرف/ جامعة الكوفة
كان لي مع أستاذي الراحل الدكتور جواد علي محاورة حول كتابه (المهدي المنتظر عند الشيعة الاثني عشرية) يوم كان يلقي محاضراته على طلبة الماجستير في قسم التاريخ بكلية الآداب/ جامعة بغداد عام ١٩٧٢م، وكنت أكرر عليه القول: لِمَ لمْ يترجم الكتاب من اللغة الألمانية إلى العربية، وذلك لحاجتنا العقائدية إليه، وقد أجابني بقوله: إذا طبع الكتاب باللغة العربية، ووقع بين أيديكم، فإنكم سوف تنظرون إليّ بما لا يرضيني، فقلت: معاذ الله يا أستاذي الكريم، فإننا نحترم العلماء والباحثين، وان لم نلتق معهم بالرأي، وبقي الكتاب باللغة الألمانية حتى وفاة المؤلف عام ١٩٨٧م، ومن المعروف ان الكتاب المذكور هو اطروحة دكتوراة حصل عليها المؤلف من جامعة (هامبورغ) عام ١٩٣٩م، ويبدو ان تخوف الدكتور جواد علي من ترجمة الأطروحة إلى اللغة العربية ناتج من تخوفه من المجتمع الاسلامي، والمجتمع الشيعي على وجه التحديد، ولكن الأطروحة المذكورة ترجمها الدكتور أبو العيد دودو (الجزائري الجنسية) عام ٢٠٠٥م وطبعها في مدينة كولونيا بالمانيا، وقد وقفنا على الطبعة المترجمة من الكتاب ودرسناه منهجياً.
وكان في البدء قد أشار إلى الفقيهين الكبيرين السيد هبة الدين الحسيني الشهرستاني، والإمام الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء، لما قدماه من إرشادات علمية للمؤلف في إثناء كتابة الأطروحة المذكورة، والتأشير على المصادر الشيعية والإسلامية الأخرى التي يمكن الاستفادة منها. وقد ذكر الدكتور جواد علي ان اطروحته هي الأولى في الجامعات الأوربية تناولت موضوع الإمام المهدي عليه السلام بقوله: (فليست هناك حتى اليوم _ أي حتى تاريخ إعداد الأطروحة _ دراسة علمية حديثة شاملة حول الإثنى عشرية)(١) وكان في الوقت نفسه أشار إلى دراسات أوربية غير جامعية، منها دراسة الأستاذ (شتروتمان) في كتابه (الإثنى عشرية) ودراسة (نيبرغ) في كتابه (الانتصار في الرد على ابن الراوندي) الذي ضم مزاعم بعيدة عن الحقيقة والواقع العلمي، وقد حاول الدكتور جواد علي في التمهيد الذي صدّر به اطروحته الرد على بعض الآراء حول الشيعة والإمامة الواردة في كتب ابن حزم والشهرستاني والمقريزي وغيرهم، والرد على الرحالة العربي (ابن بطوطة) في قوله: انه سمع أهل الحلة يقولون: ان الإمام الثاني عشر قد اختفى بعد دخوله أحد المساجد.(٢) وقد استند الدكتور جواد علي في ردّه على ابن بطوطة على حقائق تأريخية بقوله: (ان هذه الآراء تحملنا على الظن بأن المؤلفين لا علم لهم باختفاء الإمام الثاني عشر، ولا بإنشاء مدينة الحلة، وما قالوه عن الإمام الثاني عشر من أنه اختفى في الحلة التي لم تكن موجودة آنئذ أي سنة ٢٦٠ للهجرة، وإنما مدينة الحلة انشأها صدقة بن منصور المزيدي في سنة ٤٩٥ هـ /١١٠١م، وقد دعا الدكتور جواد علي إلى فحص النصوص التأريخية بدقة، والوقوف على الأخطاء والتحريفات بوحي من المعرفة العلمية. وكان الفصل الأول من أطروحة الدكتور جواد علي بعنوان: (فكرة الإمامة عند الإثني عشرية) وقد استند في دراسته على مصادر الإمامية المعتمدة ومنها كتاب (الكافي) للشيخ الكليني (٣٢٩هـ) وكتاب (اكمال الدين) للشيخ الصدوق (ت ٣٨١هـ) وكتاب (الغيبة) للشيخ الطوسي (ت ٤٦٠هـ). وأخذ الدكتور جواد علي نصوصاً من مراجع حديثة ومصادر منها كتاب (مجالس المؤمنين) للتستري وكتاب (منهج المقال) للاستر ابادي محمد بن علي وكتاب (روضات الجنان) للسيد الخوانساري، وكتاب (أصل الشيعة وأصولها) للشيخ محمد حسين كاشف الغطاء، وكتاب (ضحى الاسلام) للأستاذ أحمد أمين، وكانت دراسات علماء الرجال الذين كتبوا في الغيبة، وأخبار الإمام المهدي عليه السلام وسفرائه ووكلائه قد احتلت جانباً من كتاب الدكتور جواد علي، بدءاً من القرن الثالث الهجري، وحتى القرن الرابع عشر الهجري، وقد رتب هؤلاء الرجال وفق تواريخ وفياتهم، ونستفيد من هذا العرض الكبير للمؤلفين في الرجوع إلى كتبهم عند دراسة الإمام الغائب عليه السلام وما يتصل بالغيبة. وخصص الدكتور جواد علي، الفصل الثاني من كتابه للأئمة الاثني عشر عليهم السلام، وجاء بعنوان: (الخلفاء الحقيقيون للنبي). وقد أوضح فيه سياسة الإمام علي عليه السلام فيقول: (كان الإمام علي رجلاً، صاحب مبادئ صارمة لا تتغير، وكان منها الورع واحتقار الملذات الدنيوية).(٣) ثم استعرض سيرة الأئمة عليهم السلام، الواحد بعد الآخر وبإيجاز ملحوظ، وقد وقف على الجانبين العلمي والاجتماعي بشيء من التفصيل، وعند حديثه عن الإمامين الهادي والعسكري عليهما السلام، لم يوضح دور السلطة العباسية في التضييق عليهما، وقد كان غامضاً في عبارته التي ألمح فيها عن طبيعة العلاقة بينهما وبين السلطة الحاكمة فيقول: (لقد أدت مثل هذه الأوضاع إلى انعزال الأئمة خوفاً من ان تكون لهم علاقة مع الناس. وهكذا كان الإمام العاشر، الذي كانت حاشيته لا تزال بعد صغيرة جداً، وابنه الإمام الحادي عشر، يتجنب كل اختلاط بعامة الناس).(٤) وكان الأولى بالدكتور جواد علي دراسة هذا الجانب دراسة تحليلية دقيقة لكي تتوضح سر هذه العزلة المفروضة على الإمامين العسكريين عليهما السلام،(٥) بل أنه كان غريباً في قوله: (لقد تركت سياسة الأئمة المشؤومة، وعدم قيام أية ثورة ضد الخلفاء، ومواقف الأئمة المسالمة في نفوس الشيعة، خصوصاً كبار السن منهم، تركت السؤال الملهب عن نهاية الانتظار، وإحقاق الحق الذي لن يتخلى عن الأئمة تركه لا يعرف الجواب)،(٦) وقبيل ان يدخل الدكتور جواد علي في دراسة الإمام المهدي عليه السلام، وضع عدة تساؤلات منها: هل ترك الإمام الحادي عشر ولداً؟ وما هو مستقبل الشيعة من الآن فصاعداً؟ وإذا كان للإمام العسكري ولد، فلم لا يراه الناس، وأين هو؟ وقد خلص إلى القول: ان هذا الغموض أدى إلى ادعاء السيد جعفر بن الإمام الهادي عليه السلام الإمامة، بعد وفاة أخيه الإمام الحسن العسكري عليه السلام، وقد أدى هذا الادعاء إلى انشقاق فكري في صفوف الإمامية، وقد أشار إليه النوبختي في كتابه (فرق الشيعة)(٧)، وأخذ الدكتور جواد علي يقتنص النصوص من كتب المذاهب والفرق كالشهرستاني وابن حزم والبغدادي. وأخيراً العلامة المجلسي صاحب كتاب (بحار الأنوار) ولم يفضل كتابات المستشرقين في هذا الجانب، وفي مقدمتهم ( جولدتسيهر، ودونلدسن)، ويبدو ان الدكتور جواد علي قد اعتقد بصحة مولد الإمام المهدي عليه السلام، عام ٢٥٥هـ وفق رواية السيدة حكيمة بنت الإمام محمد الجواد عليه السلام (وهي أخت الإمام الهادي عليه السلام)، وتعد رواية السيدة حكيمة ذات أهمية تاريخية لأنها قد عاصرت حدث الولادة زمانياً ومكانياً، وقد شكك في بعض النصوص المستمدة عن الشيخين الصدوق والطوسي، ولعل هذا يفسر لنا سطحية العقيدة لدى الدكتور جواد علي، وعدم تغلغل فكرة الإمامة في أعماقه، وكان عليه غربلة النصوص وتمحيصها وفرز غثها عن سمينها. وكان الفصل الثالث من كتاب الدكتور جواد علي بعنوان (الغيبة والرجعة)، وقد كرسه لموضوع الغيبة وخصائصها في حالتيها (الصغرى والكبرى)، وقد أورد نصوصاً من كتاب (قصص العلماء) للتنكابني محمد بن سليمان حول ظهور الإمام الغائب عليه السلام، وأشار إلى السرداب الذي يشكل جزءاً من بيت الإمام الذي ولد فيه، وعاش الإمامان الهادي والعسكري في أروقته بقوله: (وقد أساء السنيون تقديس الشيعة، عندما ظنوا ان الشيعة يقصدون اختفاء الإمام في هذا السرداب، ومع مرور الزمن انتقل سوء الفهم إلى رواية الشيعة أنفسهم)(٨) وقد أصاب الدكتور جواد علي في رأيه، إذ أن المصادر السنية قد روجت موضوع غيبة الإمام المهدي عليه السلام في سرداب داره، وقد استفادوا من هذه الحكاية المزعومة حتى انه تسربت لأذهان البسطاء من الشيعة، وقد توصل الدكتور جواد علي إلى رأي مفاده: ان الشيعة يقولون ان الإمام عليه السلام اختفى من السرداب ولم يقولوا انه اختفى في السرداب وأقام فيه على ما يذهب إليه أهل السنة.(٩) وبما أن الفصل الثالث من الكتاب قد تركز على الغيبة والرجعة فإن المؤلف قد استفاد من بعض المصادر التي تشير إلى عبد الله بن سبأ، وأخذ في تبيان الأثر اليهودي في الفكر الإسلامي، كما في مؤلفات جماعة من المستشرقين من أمثال: فريد ليز، ووليم موير، ونولدكة، ويوليوس فلها وزن، ولم نجد الدكتور جواد علي مشككاً في حقيقة عبد الله بن سبأ أو اعتبارها أسطورة كما تشير إلى ذلك بعض المصادر، وعند حديثه عن الرجعة قال: ان فكرة الرجعة قد لعبت دوراً كبيراً عند معظم الفرق الشيعية حتى الاثنى عشرية: زاحمتها أيام الغيبة الصغرى فكرة الاختفاء، وجعلتها الاثنا عشرية في المقام الثاني. والفكرة الرئيسة للرجعة والغيبة هي في الأصل واحدة.(١٠) وكانت معظم النصوص التي اعتمدها الدكتور جواد علي عن الرجعة مقتبسة من كتاب (بحار الأنوار) للعلامة المجلسي (ت ١١١١هـ) وقال: (والرجعة كما نحب ان نؤكد ليست مذهباً دينياً، وإنما تقع في نفس المرتبة مع رجعة المسيح أو الدجال عند أهل السنة،فكما ان الاعتقاد برجعة هؤلاء الرجال الثلاثة ليست عقيدة ملزمة عند أهل السنة، كذلك لا يعرف الشيعة عقيدة دينية في الرجعة، ويختلف الأمر في الغيبة في اختفاء الإمام الثاني عشر تماماً على الشيعي ان يعتقد بغيبة الإمام الثاني عشر، لأن العالم لا يمكن ان يكون بدون امام)،(١١) وخص الدكتور جواد علي لسفراء الإمام عليه السلام دراسة تاريخية تضمنت الفصل الرابع من كتابه بعنوان (السفيران الأولان للإمام الثاني عشر)، ومن ثم تناول السفيرين الثالث والرابع، وقد امتدت السفارة بين (٢٦٠ _ ٣٢٩هـ) وسميت هذه الفترة باسم (الغيبة الصغرى)، وكان الإمام المهدي عليه السلام خلالها يقوم بتدبير الأمور عن طريق سفرائه، وهم نوابه في قضاء حوائج الناس الدينية والاجتماعية، وقد اثنى الإمامان الهادي والعسكري عليهما السلام على السفير الأول أبي عمرو عثمان بن سعيد العمري، فقد كان يقبض الأموال نيابة عن الإمام الغائب وفي ظرف سياسي عصيب شهدته مدينة سامراء، في الوقت الذي ادعى فيه السيد جعفر بن الإمام الهادي عليه السلام، الإمامة كذباً وزوراً في محاولة لتسلم الأموال، ولما فشل في دعوته، أخذ يشجع السلطة على مطاردة الشيعة، وقد أعطى الدكتور جواد علي مساحة كبيرة في هذا الجانب، لأنه يمثل مرحلة تاريخية خطيرة في الفكر الإمامي، وموقف السلطة العباسية من السفراء والشيعة، ووصف السفير الأول بقوله: (لعل السفير الأول كان يخفي نشاطه الوظيفي عن الحكومة، وهو إجراء كان بارعاً فيه حتى ان الأخبار عنه كانت قليلة جداً، فنحن لا نعرف الوسائل التي كان يستعملها لمكافحة أعدائه في الداخل والخارج)(١٢) وكان الدكتور جواد علي مصيباً في تشخيصه إذ ان الحقبة الزمنية التي استغرقها السفير الأول بين (٢٦٠ _ ٢٨٠هـ) كانت عصيبة وغامضة لدى الناس، الا ذوي العقيدة الإيمانية الراسخة، وقد استخدم المؤلف نصوصاً من كتاب (إكمال الدين) للشيخ الصدوق، وكتاب (الغيبة) للشيخ الطوسي، ولما تولى السفير الثاني أبو جعفر محمد بن عثمان العمري منصب السفارة بعد أبيه، كان في الساحة رجال قد ادعوا السفارة، ولكنهم اخفقوا في ادعاءاتهم، وقد وضع الدكتور جواد علي بعد حديثه عن السفير الثاني موضوعاً جانبياً بعنوان (الوضع السياسي في فترة الغيبة الصغرى) أوضح فيه حالة الشيعة، في عهد السفير الثاني، وعاد ثانية إلى دراسة مهام هذا السفير بقوله: (كان السفير الثاني يؤدي مهمته بنشاط، ويراسل وكلاءه بجد واجتهاد، ويوجه إليهم توقيعات عن إسناد الإمام المنصب إليه بواسطة رسل من الشيعة)،(١٣) وهذا أمر طبيعي إذ ان مهمة السفير كانت في غاية الخطورة والأهمية. فإن الكتمان الشديد، والسرية الصارمة، تسايران أعمال السفير، وأعوانه الذين يرشدون الشيعة إليه في مدينة بغداد، وكشف الدكتور جواد علي عن المهام الإدارية والاقتصادية للسفير الثاني الذي امتدت سفارته بين (٢٨٠ _ ٣٠٤هـ) ومن ثم تأتي دراسة السفير الثالث أبي القاسم الحسين بن روح، فقد أعطى المؤلف صورة مختصرة عن أسرة (آل نوبخت) التي ينتمي إليها، وسكناه بمدينة بغداد، وشيئاً عن علميته ونشاطه الاجتماعي، وكان أهم حدث وقع في أثناء سفارته هو ادعاء الحسين بن منصور الحلاج، السفارة بين (٢٩٦ _ ٣٠٩هـ) ويبدو أن هذا الإدعاء كان خطيراً على السلطة العباسية من جانب، وعلى الفكر الإمامي من جانب آخر، فقد استغرق هذا الإدعاء جزءاً من عهد السفير الثاني، وجزءاً من عهد السفير الثالث، وقد تجرأ أبو جعفر محمد بن علي الشلمغاني بالإدعاء بأنه سفيرٌ ووكيلٌ عن الإمام الغائب عليه السلام، وقد ساعدت هذه الأوضاع الفكرية المضطربة على تصاعد النشاط القرمطي في بغداد وغيرها من بلدان العالم الاسلامي، وقد كان ذريعة للسلطة العباسية من توجيه ضربات للشيعة، ولم يسلم منها السفير الثالث الحسين بن روح الذي أودع السجن مدة خمس سنوات، ولما أطلق سراحه، عاد إلى نشاطه الفكري حتى وفاته عام ٣٢٦هـ. وقد خص الدكتور جواد علي شخصية محمد بن علي الشلمغاني بالدراسة والتحقيق بحيث شملت الفصل السابع من كتابه، فقد كان الشلمغاني يمثل حقبة زمنية من الصراع الفكري في الدولة العباسية، ولكنه لم يصمد أمام الأحداث في بغداد، فهرب إلى الموصل، وفيها القي القبض عليه في الوقت الذي كان السفير الثالث الحسين بن روح سجيناً، ولما علم بأخبار الشلمغاني، كتب توقيعاً عام ٣١٢هـ، لعن فيه الشلمغاني لكذبه وافتراءاته ومزاعمه، ويقول الدكتور جواد علي: (دون خوف من العقاب، ومن غير أن يأخذ سجنه بعين الإعتبار).(١٤) ويبدو أن توقيع الحسين بن روح هذا كان في غاية الأهمية، لأنه حمل أسماء من ادعى السفارة عن الإمام الغائب عليه السلام قبل ادعاء الشلمغاني. وقد أجاد الدكتور جواد علي في دراسة الشلمغاني وتبيان آرائه، وعلاقاته بالأمراء والسلاطين والوزراء، وكشف عن وقائع محاكمته وإعدامه مع ابن أبي عون، وإحراق جثتيهما، وذر رمادهما في نهر دجلة، ولكن هذا الإجراء لم يكن مانعاً من ادعاء الغني البصري الجبار من ادعاء السفارة وأنه خلف الشلمغاني، وان روحه قد حلت فيه.(١٥) وقد بقي البصري على قيد الحياة في عهدي السفيرين الثالث والرابع إذ أنه توفى بمدينة بغداد عام ٣٤٠ هـ. ويستفاد من هذه الحالة ان الفكر الإمامي قد تعرض لمحنة فكرية خطيرة في عهد السفيرين الأخيرين، وقد ساعدت هذه الحالة على بروز علم الكلام في مدينة بغداد، واتساع دراسة علم الحديث الشريف، ولذا خصص الدكتور جواد علي فصلاً من كتابه بعنوان: (تطور علم التوحيد عند الشيعة بشكل عام قبل الغيبة الصغرى وخلالها) فتحدث عن الأصول الأربعمائة في علم الحديث عند الشيعة الإمامية. ودور الإمامين محمد الباقر وجعفر الصادق عليهما السلام في النشاط العلمي والفكري في عصرهما، وتعميق مدرسة أهل البيت في أذهان المجتمع الإسلامي، وكانت مسألة الإمامة في مقدمة المباحث الكلامية التي شغلت الفكر الإسلامي، وقد أعطى الدكتور جواد علي لتلاميذ الإمام الصادق عليه السلام، مساحة من كتابه مستعيناً بالمصادر الرجالية والكلامية عند الإمامية، ويقول: (يعتبر زمن الغيبة الصغرى من وجهة نظري، بداية للتطور المنطقي لعلم الكلام الشيعي، ليصبح نظاماً متكاملاً متميزاً)،(١٦) وفي الواقع ان الفكر الكلامي عند الإمامية قد بدأ قبل عصر الغيبة الصغرى، وأنه يعود إلى القرن الثاني للهجرة، وفي عهد الإمام الصادق عليه السلام وتلاميذه الذين كانوا ينوبون عن الإمام في بعض المناظرات الكلامية والعقائدية. وتحدث الدكتور جواد علي عن المعتزلة وآرائهم الكلامية، والتقاء بعض أفكارهم بالشيعة الإمامية، وتناول مفهوم التقية وعمقها التاريخي، وخصص لعلم الحديث دراسة موسعة ضمن الفصل الثامن من كتابه بدءاً من عصر الغيبة الصغرى، فتحدث عن الشيخ الكليني وكتابه (الكافي) ومن جاء بعده من المحدثين، كما تناول الفقيهين: الشيخ الحسن بن عقيل العماني، والشيخ محمد بن أحمد بن الجنيد، وهما من معاصري الشيخ الكليني المتوفى عام ٣٢٩هـ. وقد عاد الدكتور جواد علي إلى دراسة السفير الرابع، وهو علي بن محمد السمري في الفصل التاسع من كتابه بعنوان (نهاية الغيبة الصغرى) وقد كانت سفارته بين ٣٢٦ _ ٣٢٩هـ، وبوفاته تبدأ الغيبة الكبرى كما في كتاب الإمام الغائب عليه السلام، الموجه إليه وجاء فيه: (فاجمع أمرك، ولا توصى إلى أحد فيقوم مقامك بعد وفاتك، فقد وقعت الغيبة التامة، فلا ظهور إلا بعد إذن الله تعالى ذكره).(١٧) ولكن هناك من ادعى السفارة بعد وفاة السفير الرابع، دون الإعتماد على توقيع الإمام المهدي عليه السلام الذي نص على انتهاء عصر السفارة، وكان أبو بكر البغدادي أحد الذين ادعوا السفارة، ويبدو ان الناس قد آمنوا بأن السفير الرابع كان آخر السفراء، ولذلك لم تلاق حركة أبي بكر البغدادي رواجاً في المجتمع البغدادي، بل أنه لعن وتبرأ منه الناس، وخصص الدكتور جواد علي دراسة لمدافن السفراء الأربعة بمدينة بغداد، وقد استقى نصوصه من كتاب (الغيبة) للشيخ الطوسي، الذي حدد مواقع مقابرهم، وتناول بعد ذلك (نواب السفراء) وقد أشار الدكتور جواد علي إليهم بالقول: (ومن الصعب في بعض الأحيان الحكم على ما إذا كان النواب أو الوكلاء قد تم تعيينهم من قبل الإمام الحادي عشر، أو أن ذلك لم يتم الا على يد السفير الأول).(١٨) ومن المحتمل ان السفير كانت له صلاحيات تعيين الوكلاء في المدن والقصبات وقد كانت دراسة الدكتور جواد علي لهؤلاء مختصرة ومقتضبة وذكر بعض مؤلفاتهم ومواقع وجودهم في العراق وفارس وآذربيجان وغيرها، وكان بعض الإماميين قد أطلق لفظ (السفير) على الوكلاء أو النواب، وختم الدكتور جواد علي كتابه بالفصل العاشر بعنوان (الغيبة الكبرى) وقد أشار إلى توقيعات الإمام الغائب عليه السلام في هذه الفترة، معتمداً على نصوص الشيخ المفيد (ت ٤١٣هـ)، وذكر ان الفقيه أبا يعلى حمزة بن عبد العزيز المعروف بسلار الديلمي (ت ٤٦٣هـ) قد اسقط صلاة الجمعة في عصر الغيبة الكبرى، وكان يقف من بعض التوقيعات موقف المتشكك، وقد سأل العلامة السيد هبة الدين الشهرستاني عن حقيقة التوقيعات الصادرة عن الإمام المهدي عليه السلام، فأجابه قائلاً: (أنه لا يصح أن يعتبر المرء كل التوقيعات صحيحة) وقال: ان بعض التوقيعات التي وصلتنا أنها تنسب إلى السفير الثالث الحسين بن روح، وانها تتصل بالشرع.(١٩) وقدم الدكتور جواد علي نماذج من التوقيعات وهي عبارة عن أسئلة وجهت إلى الإمام المهدي عليه السلام، وقد أجاب عنها. وكان بعضها يدور حول أحوال الشيعة، وبعض التقولات التي تحدد ظهور الإمام عليه السلام كقوله: (كذب الوقاتون)،(٢٠) وكان بعض الوكلاء يرسل الأسئلة إلى السفراء، وهم بدورهم يوصلونها إلى الإمام عليه السلام للإجابة عليها، وقد استقى الدكتور جواد علي من كتاب (بحار الأنوار) للعلامة المجلسي كثيراً من التوقيعات وقد ختم كتابه بعنوان (عودة المهدي ودولته) وقد أشار إلى الأحداث التي تسبق ظهور الإمام المهدي عليه السلام ومنها الصراع بين السفياني والخراساني، وأن ظهور الإمام عليه السلام يؤدي إلى إنهاء الصراع بينهما، وعند ذلك يؤسس حكومته المرتقبة، وختم الدكتور جواد علي كتابه بنتائج علمية توصل إليها بحثه الجامعي منها: (نريد ان نؤكد مرة أخرى اننا لا نبحث أفكار الغيبة الا بوصفها ظاهرة تاريخية _ عقائدية. وليس عقيدة دينية، فلا ينتمي من الموضوع كله إلى ميدان العقيدة سوى وجود الإمام الثاني عشر المهدي ورجعته، وعلى العكس من ذلك فإن عمل السفراء والهدف من إقامة دولة شيعية، وكذلك إنتظار المنقذ، كل ذلك هو الخطوة الحاسمة والباعث المحرك خلال التاريخ الأرضي لهذه الدائرة الشيعية الخاصة).(٢١) وكان الدكتور جواد علي قد ابتعد عن الجانب الغيبي في دراسته الجامعية هذه، وان كتابه بحاجة إلى دراسة منهجية دقيقة، إذ أن النصوص التي اعتمدها لم يصل بعضها إلى إجماع الإمامية، وان بعضها مستمد من مصادر إمامية متأخرة، إضافة إلى كتب الفرق والمذاهب غير الإمامية. وقد ألقت دراستنا ضوءاً على آراء أستاذنا الراحل الدكتور جواد علي الذي كشف لنا جوانب دقيقة من كتابه الكبير: (المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام) يوم كنت طالباً قبل أكثر من ربع قرن من الزمان، وقد أنارت منهجيته في دراسة التاريخ، طريق العلم والمعرفة للأجيال التي تتلمذت عليه.
الهوامش
(١) جواد علي: المهدي المنتظر ص٨.
(٢) ابن بطوطة: الرحلة ١/ ١٣٩.
(٣) جواد علي: المصدر السابق ص ٦٢.
(٤) المصدر نفسه ص٦٤.
(٥) وكان اشكال الأستاذ الحكيم في محله، إلا أنه لو سأل من المؤلف: هل ان عزلتهما كانت لأسباب أمنية صرفة؟ أم أنها اضافة إلى ذلك تمهيد لغيبة ولدهما المهدي عليه السلام كما هو في نصوص بعض الروايات بهذا الشأن ـ الانتظار ـ.
(٦) من العجيب أن يصدر مثل هذا التقييم لسياسة أهل البيت عليهم السلام من مؤرخ سعى إلى الموضوعية في دراساته التأريخية، ويبدو أنه لم يوفق في مسعاه هذا كبقية الباحثين الذين عاشوا تحت مؤثرات تقليدية مسبقة، قرأوا فيها تاريخ أهل البيت عليهم السلام قراءة سلبية فتعبير الباحث بسياسة الأئمة المشؤومة غير دقيق بل غير علمي بل يتنافى مع أدبيات البحث الموضوعي. فسياسة الأئمة لم تكن سياسة سلبية تجاه الوضع القائم وان أدلة التحقيق الموضوعي تشير إلى قيادة الأئمة عليهم السلام لأكثر الثورات التي حدثت إبان العهدين الأموي والعباسي فلا أساس للاحباط الذي أحس به شيعة أهل البيت عليهم السلام ولا حيرة في التساؤلات الملتهبة عن حقيقة الإنتظار، وكان على الأستاذ أن يتصدى لتوضيح هذه الدعوى. (الإنتظار).
(٧) لم تثبت المصادر التاريخية ان هذا الانشقاق المدعى الذي أشار إليه النوبختي قد استمر إلى عهد يعيد بل كان انشقاقاً بدوياً بسبب إثارة تساؤلات أجيب عنها بعد ذلك مما أدّى إلى ترميم المنظومة الشيعية التي عانت من هزات دعاوى جعفر وأمثاله المدعية للمهدوية. (الانتظار).
(٨) المصدر نفسه ص ٧٨.
(٩) المصدر نفسه ص ٨١.
(١٠) المصدر نفسه ص ٩٢.
(١١) المصدر نفسه ص ٩٣.
(١٢) المصدر نفسه ص١٠٤.
(١٣) المصدر نفسه ص ١٢٤.
(١٤) المصدر نفسه ص ١٤٩.
(١٥) المصدر نفسه ص١٥٥.
(١٦) المصدر نفسه ص ١٨٧.
(١٧) المصدر نفسه ص ٢٤٠.
(١٨) المصدر نفسه ص ٢٤٨.
(١٩) المصدر نفسه ص ٢٦٨.
(٢٠) المصدر نفسه ص ٢٧٧.
(٢١) المصدر نفسه ص ٣٠٤.