الإمام المهدي عليه السلام
وخلافة الإنسان في الأرض(١)
الباحث إحسان العارضي
مركز الشهيدين الصدرين للدراسات والبحوث
قال تعالى: (وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَْرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ).
الحمد لله رب العالمين وأفضل الصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله الطاهرين وبعد:
إن البشرية ليست إلاّ رحلة طويلة من رحلات الكون الكبرى وظاهرة من ظواهره وليس مستقبلها السعيد بكل تفاصيله سوى محاولة تركيز الأغراض الكونية وعلى هذا فقد مرّت البشرية في حركتها ولا زالت بمراحل تأريخية عديدة، كانت تسعى فيها لنيل السعادة وبلوغ الكمال، لكنها في سعيها هذا انقسمت إلى خطين متعارضين:
الأول: تمثّل في حركة الأنبياء والأوصياء والصلحاء ومن والاهم في هذا الخط الرباني، وقد حاولوا إيصال الإنسانية إلى السعادة والكمال لكن الطغاة والظلمة والأشرار لم يسمحوا لهم بتحقيق هذا الهدف النبيل لتعارضه مع مصالحهم وأنانياتهم الشيطانية، وعلى الرغم من هذه الإعاقة، فقد أسّس معتنقو الخط الإلهي اللبنات الأولى وأوضحوا السبيل للوصول إلى الرشد والحكمة ونيل الكمال.
الثاني: وتمثل في حركة الطواغيت والأشرار، أصحاب الخط الشيطاني حيث حاولوا الحصول على الملذّات والسلطة والحكم وامتلاك وسائل القوة والبطش، وإقصاء المستضعفين والفقراء من طريقهم، وقد نجحوا في حركتهم السلبية وتحققت لهم الغلبة الظاهرية عبر العصور التاريخية بشكل عام، وذلك لمخاطبتهم الغرائز والشهوات وهم في مسعاهم هذا كانوا أقرب إلى طبيعة الطين في أصل خِلقةِ التكوين الإنساني، وأبعد من الحكمة وطبيعة الروح المتسامية نحو المثل الأعلى تبارك وتعالى.
وقد حصدت البشرية من جرّاء هذه الحركة السلبية التسافلية الآلام والبلايا وفقدت خيرة أبنائها، وجرت أنهار الدماء والدموع ولا زالت، وظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس، إلى أن يقضي الله أمراً كان مفعولاً!
المحور الأول:
مفهوم الخلافة:
قال تعالى: (وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الأَْرْضِ خَلِيفَةً).
قبل بيان طبيعة الخليفة الأرضي ومواصفاته، لابد لنا من التعرض بإيجاز إلى مفهوم الخلافة.
فقد جاء في تعريفها: (والخلافةُ النيابة عن الغير، إمّا لغيبة المنوب عنه وإمّا لموته، وإمّا لعجزه، وإما لتشريف المستخلفْ، وعلى هذا الوجه الأخير استخلف الله أولياءه في الأرض قال تعالى: (هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ في الأَْرْضِ)ـ (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الأَْرْضِ)ـ وقال (وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْماً غَيْرَكُمْ).
والخلائف جمع خليفة وخلفاء جمع خليف، قال تعالى: (يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الأَْرْضِ)ـ (وَجَعَلْناهُمْ خَلائِفَ)ـ (جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ).(٢)
فالخليفة هو إنسان إختاره الله سبحانه من بين جميع مخلوقاته وجعله خليفته في الأرض، فخلافة الإنسان هي إنابة من الله تعالى (لا تتم إلا بكون الخليفة حاكياً للمستخلِف في جميع شؤونه الوجودية وآثاره وأحكامه وتدابيره بما هو مستخلف والله سبحانه وتعالى مسمّى بالأسماء الحسنى متّصف بالصفات العليا من أوصاف الجمال والجلال، منزّهٌ في نفسه عن النقص ومقدّسٌ في فعله عن الشرّ والفساد، والخليفة الأرضي لا يليقَ بالاستخلاف ولا يحكي بوجوده المشوب بكل نقص، وشين الوجود الإلهي المقدس المنزه عن جميع النقائض وكل الأعدام).(٣)
فحتى يستطيع الخليفة الأرضي إنجاز المراد الإلهي من هذه الخلافة بشكل تام، عليه أن يتشبّه بصفات الله سبحانه ويكون مرآة عاكسة لها في صفحة الوجود الفقير والممكن، ولا سبيل آخر للحصول على هذا المقام الاّ بركوب المحجة البيضاء وإلتزام الصراط المستقيم عبر بوابة العبودية التامة والخاضعة لله وحده (جل شأنه).
ولأن الخليفة الأرضي قد زوّده البارىء الكريم بمقومات وإمكانيات إنجاز هذا التكليف، صار هذا التكليف أمانةً ربانية وعهداً لله يجب الوفاء به لتحقيق المراد الإلهي من جعله خليفة في الأرض.
ومن أهم لوازم إنجاز التكليف الرباني في الأرض هو العلم، وخبرات التأهيل القيادي المطلوب، فقام الله سبحانه وتعالى بتعليم آدم عليه السلام الخليفة الأول الأسماء كلها، وقام بتأهيله في الجنة لكي يقوم بأعباء دوره القادم، وبهذا تكامل وعيه ونضجت خبرات الحياة المتنوعة عنده كخليفة رباني في الأرض(٤) وهنا لابد من وقفة قصيرة لبيان مواصفات وخصائص التعليم الإلهي الذي ابتدأ بآدم عليه السلام وانتهى بمن يتقي الله سبحانه حق تقاته:
١ ـ هو علمٌ حضوري لدني من عليم خبير، لا علمٌ كسبي، قال تعالى: (وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً).
٢ ـ هو علم شمولي محيط بجميع أحوال المعلوم، لا علمٌ محدود ناقص، وهذا العلم الشمولي يتصف بكون المعلوم حاضراً عند العالم بلا واسطة.(٥)
فكلما كان وعاؤه الوجودي واسعاً كلّما استوعب مقداراً أكبر من العلم.
فالعلم الإلهي ينزل بشكل إفاضة مستمرة وتامّة، ويبقى وعاء المتلقي هو الذي يحدد كمية العلم الذي يستوعبه ونوعيته.
وقد أشار القرآن الكريم إلى ان حالة التقوى التي يمتلكها الإنسان هي التي تحدد كمية العلم ونوعيته.
خصائص الخلافة الجعلية:
من خلال تناولنا للنصوص القرآنية الشريفة حول الخلافة المجعولة إلهياً للإنسان لاحظنا خصائص وميّزات لها تختلف عن غيرها. ومن أهمّ هذه الخصائص:
١ ـ إنها تشريف رباني لنوع الإنسان، قال تعالى: (هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ فِي الأَْرْضِ) فمن بين جميع مخلوقات الله تعالى، إختار الباري الكريم الإنسان ليكون خليفته في الأرض، وبهذه الخلافة فقد تحدّد دوره في الحياة الدنيا وحركته في الوجود الامكاني بأجمعه، فهو سيد عالم الإمكان.
٢ ـ إن هذه الخلافة إمانةٌ معهودة من الله سبحانه إلى مَنْ ائتمنه وهو تكليف شاق لمعظم الناس كونهم لم يتمكنوا من فهم المراد الإلهي من الخلق وغاية الوجود.
٣ ـ إنها مسخّرةٌ لكل ما في الوجود للإنسان المستخلف لكي يستطيع انجازها بشكل صحيح.
فهذا التسخير الإلهي للموجودات لتكون طوع إرادة الإنسان يمثل أحد لوازم الاستخلاف، وهذا التسخير المادي الهائل يستبطن تسخيراً معنوياً أعظم منه يستخدمه الخليفة في السير والسلوك إلى الله تعالى.
٤ ـ ومن خصائص هذه الخلافة أنها تقوم بعكس صفة العدل الإلهية في صفحة الوجود الإمكاني، قال تعالى: (وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَالْمِيزانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ).
٥ ـ ان لهذه الخلافة خط شروع واحد لكل الناس، وبمعنى أوضح فإنه من مقتضى عدل الله سبحانه ان يتيحها لكل أحد، فلا تمايز بين المكلّفين من ناحية استعداد خلقة التكوين، لكن سعي الإنسان التقوائي هو الذي يحدد درجة الخليفة الوجودية.
٦ ـ ان مسار هذه الخلافة تكاملي يترقّى باستمرار باتجاه الله سبحانه، في مراقي الكمال الامكاني، وإن أي إنحراف عن الصراط المستقيم سوف يؤدي الى توقف الحركة الارتقائية التكاملية والنزول في دركات التسافل الوجودي والسقوط في سجن المحدودية والفقر الوجودي.
٧ ـ ان تحقيق الحدود المطلوبة ولو بالحد الأدنى لمقتضيات الخلافة في الأرض يقتضي نزول البركات واستجابة الموجودات بأجمعها لإرادة الخليفة الرباني، هذا بشرط الاستقامة على الطريقة الربانية.
وهذه الاستقامة تطلب درجة كافية من الإيمان والتقوى في الحركة الإنسانية قال تعالى: (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالأَْرْضِ وَلكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْناهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ).
٨ ـ إن خلافة الإنسان الجعلية ليست مخيّرة في عملها وحركتها وهدفها، بل إنها ملزمةٌ بتحقيق الغاية الربانية من هذا الجعل الاستخلافي، وهو أن يصل الإنسان إلى مرتبة التوحيد الأفعالي في سلوكهِ، وإلى تحقيق مرتبة العبودية الحقة لله سبحانه وتعالى في نفسه، وبهذا يحصل من معبوده على كل شيء.
ومن هنا يتبيّن الفارق النوعي بين الخلافة الربانية والخلافة الوضعية التي تختار لنفسها ما شاءت وبحسب هواها، وبالتالي فهي تستبطن المحدودية والنقص والتسافل وعدم القدرة على الوصول إلى الكمال بينما تستبطن الخلافة الجعلية الإلهية الامكانية والقدرة التامة في حركتها باتجاه الكمال الإنساني في عالم الوجود الدنيوي والحصول على درجة التأهيل المطلوبة للوصول إلى جنة الخلد.
٩ ـ ومن جملة خصائص هذه الخلافة أنها تمتلك ثلاثة أبعاد حركية، فالبعد الأول يتمثل في علاقة الإنسان بالطبيعة المسخّرة لها، وهذا البعد ينصّ على تعامل الإنسان مع الطبيعة بوعي ومسؤولية وضمن قوانينها التكوينية، ولا يُسرف أو يتطرف في الإساءة إليها، إذْ تتمرّد عليه ولا تستجيب له ولو بعد حين من الزمن، فيظهر الفساد وعدم الإنتظام في البر والبحر والجو وهكذا تنقلب الطبيعة على الإنسان، فبدلاً من أن تستجيب لإرادته وتكون طوع أمره، تكون ضده وتنزل به الكوارث الأرضية والبحرية والجوية، وبذلك يفقد أحد أهم مستلزمات خلافته في الأرض.
اما البعد الثاني، فيتمثل في علاقة الإنسان مع الإنسان، وهو بعدٌ يسري في جميع أوجه التفاعل الإنساني وبحسب ضوابط التشريع الإلهي ومحدداته وحدوده والتي أوضحتها الشرائع السماوية المختومة بالشريعة الإسلامية السمحاء.
وهنا يؤمن الإسلام بوصفه منظومة حضارية متكاملة بأن هذه العلاقة يجب أن تتأطر ضمن إطارين؛ الأول: المحتوى الداخلي للإنسان الذي يلتزم بالجهاد الأكبر للنفس الإنسانية وهو الحاكم على حركة الإنسان في الأبعاد الثلاثة.
الثاني: الجهاد الخارجي والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والتواصي بالحق والصبر والتواد والتراحم والتباذل في سبيل الله وإعلاء كلمته ودحض كلمة الشيطان وأتباعه.
وبالنسبة إلى البعد الثالث: فإنه يتمثل في علاقة الإنسان مع خالقه العظيم، والذي يعتبر المثل الأعلى الذي تقاس عليه درجة الإنسان ومكانته في سُلّم الوجود الإمكاني.
فكلّما يقترب الإنسان من خالقه عبر التشبّه بصفاته وعكسها في صفحة الوجود كلّما كان الإنسان مرضيّا عند الله سبحانه وبنيل الرضى الإلهي والمحبة الربانية يحصل الإنسان على قدرات تكوينية فيكون مثلَ الله، كما جاء في الحديث القدسي المشهور: (عبدي أطعني تكن مثلي تقل للشيء كن فيكون).
مواصفات الخليفة الرباني:
من المسائل العقائدية الواضحة، أن الله سبحانه عادل لا يظلم أحداً وهو حكيم بل أحكم الحاكمين.
لذا فمن مقتضى العدل الإلهي أن يوفّر الفرصة لكل أحد لكي يمارس دوره الاستخلافي في الأرض، وان ينبع هذا الدور من اختيار الإنسان وقناعاته، ليهلك من هلك عن بيّنة ويحيى من حيّ عن بيّنة وتقام الحجة على الجميع وينقطع عذرهم.
فالخلافة بهذا الوصف متاحة للجميع، ولكن هل استطاع الإنسان أن ينجز هذه الخلافة ويحقق المراد الإلهي منها؟
والجواب بالتأكيد كلا، فقد فشل معظم الناس إلاّ قلّة قليلة في هذا الأمر وترجع أسباب ذلك الفشل إلى عدة أمور:
أ ـ عدم الاقرار بالتوحيد في الفكر والقلب والعمل، بسبب ضعف الإيمان وسوء الاختيار، وعدم الاستجابة إلى الميثاق الإلهي بالربوبية؛ قال تعالى: (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَ لَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى).
فمنهم مَنْ لبّى بسرعة ومنهم مَنْ تأخّر ومنهم من عصى وغوى، وهكذا تفاوتت مراتبهم الشرفية في الوجود الإمكاني، وفي تنجيز الخلافة في الأرض لاحقاً.
ب ـ غلبة الشهوات على العقول والقلوب، قال تعالى: (زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ مِنَ النِّساءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَناطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَْنْعامِ وَالْحَرْثِ ذلِكَ مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ).
وهذه الشهوات تمنع الإنسان من الوصول إلى الكمال وإنجاز الخلافة.
ج ـ الخطأ في تشخيص المصداق الحقيقي للكمال، فيظن الإنسان أنّه متجسّد في المال والسلطة والشهرة، وهذا وهم كاذب وسراب خادع، قال تعالى: (قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَْخْسَرِينَ أَعْمالاً * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ) فيفشل الإنسان في أداء الأمانة وإنجاز التكليف الرباني.
وبناءً على ما تقدّم يمكن القول بأن الخلافة الجعلية في الأرض، وباعتبارها أمانةً إلهية قبلها الإنسان وهي عهد من الله إليه،فإن مواصفاتها ورتبتها ومقامها تتشخص بالإنسان واختياره ودرجة إيمانه وقربه من الله تعالى، فهو يُعطيها رتبتها الوجودية قرباً أو بعداً عن المراد الإلهي، فهي بهذا الوصف، خلافة تتدرج في سلّم الوجود، يقف في أعلى سلّمها الوجودي النبي والولي والتقي والمؤمن نزولاً.
وهذه بعض المواصفات المطلوبة في الخليفة الأرضي:
١ ـ أن تمامية تحقيق الخلافة في الواقع الإمكاني تتطلّب العصمة في الخليفة، ولو لم يكن كذلك لحدث نقص في إنجاز المهمة وتحقق الغرض، وهذا يستلزم بداهة العصمة في جميع المجالات، إذ لو لم يكن معصوماً لاختلف فيه وعليه الآخرون ولم ينقد له مَنْ يعتبر نفسه من الحكماء والعلماء والفضلاء.
٢ ـ وهذا يستدعي بداهة إمتلاكه للعلم اللّدني الكاشف للواقع، والمصيب للغرض الجعلي من الاستخلاف الإلهي للإنسان المستخلفْ.
٣ ـ ومن خصائص الخليفة الرباني ان يمتلك القدرة التامة على عكس الصفات الإلهية في عالم الإمكان، فعلى سبيل المثال يكون عزيزاً على الكافرين رحيماً بالمؤمنين، بل إنه يُجسّد رحمة الله سبحانه في العالمين.
وباتصافه وعكسه للصفات الإلهية في الوجود، فإنه يجسد الخلافة المقدسة في الأرض، ويوصل جميع الممكنات إلى كمالها المنشود، عن طريق التعليم والتطهير والتزكية واخراج الإنسانية من ظلمات الشرك وبكل مراتبه إلى نور التوحيد.
قال تعالى: (لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ).
مستلزمات الخلافة:
لابد للخليفة في الأرض من مستلزمات معينة لكي يستطيع إنجاز هذه الخلافة والنهوض بأعبائها ومنها:
١ ـ لديه النظرية أو الأطروحة الحضارية والمستندة إلى العقيدة التي يعتنقها والتي تقوم عليها فلسفته الحضارية التي تفسر الوجود والغاية، قال تعالى: (الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ).
٢ ـ وجود الأنصار والمؤيدين له المخلصين والذين يساعدونه في تحقيق مهمته وتطبيق رؤيته وهؤلاء الأنصار هم مستخلفون أيضاً ولكن بحسب درجتهم الاستخلافية. قال تعالى: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ).
٣ ـ إمتلاك الخليفة الرباني فهماً جيداً وواعياً لحركة السنن التأريخية، وكيفية ظهور الحضارات وزوالها، قال تعالى: (أَ فَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لآَياتٍ لأُِولِي النُّهى).
٤ ـ لديه الشخصية القيادية اللازمة لهذه المهمة، قال تعالى: (قالُوا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الأَْرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً عَلى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا * قالَ ما مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْماً * آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذا ساوى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذا جَعَلَهُ ناراً قالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً * فَمَا اسْطاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطاعُوا لَهُ نَقْباً).
من خلال هذه الآيات المباركات نستطيع أن نستجلي المضامين القيادية الآتية:
أ ـ أن لجوء القوم إلى ذي القرنين وطلب مساعدته لهم، يدل على انهم يقرونّ بكفاءته وذكائه وخبراته اللازمة لحل مشكلتهم، وهي التخلص من يأجوج ومأجوج.
ب ـ طلب منهم الإعانة في تنفيذ خطته وهذه من لوازم المهمة، إذْ لا يستطيع أي قائد أن ينجز مهامّه ويحقق أهدافه دون وجود الأعوان النشطين.
ج ـ لدى ذي القرنين خطة مهمة بعناية فائقة ودقة كبيرة وفيها إبداع كبير، كذلك فإنه يمتلك التفاصيل الدقيقة لحجم العمل ومستلزماته والمدة الزمنية التي يستغرقها لكي يكمُل.
د ـ لديه الشجاعة والجرأة على مواجهة الصعاب وتذليلها وتحمل مسؤولية القيادة وأعبائها،معتمداً في حركته على التمكين والمدد الإلهي له.
وهناك مضامين عديدة لا يسعُ المجال لذكرها.
ولنأتِ على تطبيق المواصفات المتقدمة على شخصية الإمام المهدي عليه السلام ، فهو يمتلك العقيدة الإلهية في فكره وسلوكه، ولديه فهمٌ راقٍ لحركة التأريخ والسنن الإلهية العاملة فيه، لايدانيه أحدٌ في هذا، كيف وهو قد عاصر الحضارات والممالك ورأى كيفية نشوئها وتعملقها وسقوطها، وتعرف على أسباب قوتها وضعفها.
كذلك فإن من أهم شروط ظهوره وقيامه بتنفيذ مفردات خلافته في الأرض هو وجود أعوانه وأنصاره المخلصين الذين يتحدون الجبال التي لو طاولتهم لطالوها والذين لا يكلّون ولا يسأمون من العمل في الحرب والسلام على حد سواء، وكما أخبرتنا الروايات الموثوقة بذلك.
ان وجود العصمة في الإمام المهدي عليه السلام تجعله قدوة حسنةً للناس جميعاً وكذلك تعطيه العصمة التفوق النوعي على سائر الناس كونه يكشف الواقع ويصيب مقاصد التشريع بدقةٍ لا يظاهيه فيها أحد من العالمين، وإذا كان ذو القرنين قد آتاه الله (مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً)، لتنفيذ دور تأريخي محدود، فإن الإمام المهدي عليه السلام وبحسب مهمته الكبرى التي أدّخره الله تعالى لها، يمتلك قدرات تكوينية هائلة تناسب وتكافيء الدور الحضاري الذي بُعث من أجله الأنبياء والرسل وعليه قامت حركة الأوصياء والأولياء، لتحقيق الغاية الإلهية من الخلافة الإنسانية في الأرض.
أنواع الاستخلاف الإلهي وخصائصه:
هناك أنواعٌ عديدة من الموجودات ذكرها القرآن الكريم استخلف الإنسان عليها، لكنها تندرج ضمن خطين متعارضين من حيث المسعى والغاية:
أ ـ استخلاف إنساني ـ رباني.
ب ـ استخلاف إنساني ـ شيطاني.
ومنذ بدء خلق آدم عليه السلام وعصيان إبليس للأمر الإلهي بالسجود لآدم بدأت الحرب بين الإنسان الرباني والشيطان وأتباعه.
فالخطان متناقضان في كل شيء في حركتهما ومسعاهما وفي وجودهما وغاياتهما وفي أصلهما وعاقبتهما.
وهذه بعض أنواع الاستخلاف وخصائصه:
١ ـ استخلافٌ بالطبيعة: قال تعالى: (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً لَكُمْ مِنْهُ شَرابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ * يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالأَْعْنابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ إِنَّ فِي ذلِكَ لآَيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ * وَ سَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّراتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لآَياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ * وَ ما ذَرَأَ لَكُمْ فِي الأَْرْضِ مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لآَيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ * وَ هُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها وَتَرَى الْفُلْكَ مَواخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ).
إن هذا التسخير الرباني الوارد في هذه الآيات المباركات وغيرها يُحمّل الإنسان مسؤولية رعايته وبحسب وصايا التشريع للوصول إلى الغاية، فالإنسان ليس كأحدٍ من المخلوقات الأخرى بل انه خليفة الله سبحانه وقد سخر له الله سبحانه الدنيا بكل ما فيها من القوى والوسائل ليبلغ المراد، فالأمانة الاستخلافية كبيرة وأن الإنسان محاسب عليها كونه مسؤولاً ومؤتمناً من حيث كونه خليفةً ونائباً عن الله في هذه الدنيا.(٦)
٢ ـ استخلاف بالملكية: كما سبق وأوضحنا ان هذه الوسائل والامكانات التي وفّرها الله سبحانه للإنسان تمثل أحد شروط تنفيذ الخلافة في الأرض بعد ان أعطى سبحانه وتعالى للإنسان نعمة العقل والتدبر، وبهذه المزايا السامية وحمّله أعباءَ الخلافة ونتائجها، فقد كرّمه الله تعالى على جميع مخلوقاته، وما كل هذه الأشياء إلاّ دونه لكي يتصرف بها على ما تقتضيه مرضاة مولاه، ومن ظُلِم الإنسان لنفسه أن تستحوذ هذه الأشياء على عقله وقلبه وحركته في الوجود، فيكون مشركاً بالله ويتخلى عن منصب الخلافة الإلهية فيخسر الدارين.
فالذي تدل عليه جميع الآيات الشريفة هو ان الإنسان مستخلفٌ على كل ما في الوجود وليس له أن يتصرف خلاف ذلك، إنما هو ملزم بأتباع أوامر الله سبحانه في كل شيء، لأنه خليفة الله سبحانه لا أكثر.
لكنّ معظم الناس قد وقع في حبائل الفهم الخاطيء لموضوع الملكية، حيث ظنّوا أنهم هم المالكون الحقيقيون للموجودات وليس الملك لله سبحانه وحده كما هو الواقع، فحصل الظلم في دار التزاحم والفقر والمحدودية وبغى بعضهم على بعض، قال تعالى: (وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ) لأن الله سبحانه هو المالك لكل شيء ملكاً حقيقياً لا اعتبارياً.
فالملكية الحقيقية ناشئة من عند المالك لا من غيره بالافاضة أو الجعل كما هو في الملكية الاعتبارية، والملكية الحقيقية لا تنفك أو تنفصل عن مالكها بأي حالٍ لا كما هو حال الملكية الاعتبارية التي تنفصل الملكية عن مالكها عند الموت أو فقدان الأهلية.
كما ان المالك الحقيقي له أن يتصرف في ملكه كما يشاء دون قيد أو حد زماني أو مكاني، قال تعالى: (قُلِ اللَّهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ).
هذه هي أبرز سمات الملكيتين، والتي يجب التفريق بينهما والتصرف على أساس من الفهم الصحيح لهما.(٧)
ان من أبرز معوقات انجاز الخلافة وعدم الوصول إلى الغاية هو التوهم الحاصل عند معظم الناس في طلب الكمال بسبب الوقوع في حب الدنيا بدل الآخرة، رغم البيان القرآني الرائع، قال تعالى: (اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكاثُرٌ فِي الأَْمْوالِ وَالأَْوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَباتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطاماً).
٣ ـ استخلاف بالحكم والسلطنة:
قال تعالى: (يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الأَْرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ بِما نَسُوا يَوْمَ الْحِسابِ).
وهذا جعل إلهي بالحكم والسلطة حتى يقيم العدل والحق بين الناس، فالله سبحانه هو الحاكم الحقيقي لا الجعلي أو الاعتباري كما هو شأن الخليفة الأرضي لأن الله سبحانه وتعالى هو أحكم الحاكمين و(إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ)، وأي حاكم يقف قبالة الحكم الإلهي فهو مشرك ضالٌ خاسر.
لكن الله سبحانه جعل بعض الناس حكاماً بأمره وبإذنه بعد اجتيازهم الإمتحان الإلهي، قال تعالى: (وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً قالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ).
والاصطفاء الإلهي لبعض البشر إنما يقوم على درجة تحملهم للأمانة الإلهية، قال تعالى: (وَلَقَدِ اصْطَفَيْناهُ فِي الدُّنْيا وَإِنَّهُ فِي الآْخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ).
وبموجب هذا الاصطفاء الإلهي فضل الله سبحانه بعض الناس على بعض ورفع بعضهم فوق بعض درجات، قال تعالى: (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الأَْرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ).
وقد أنزل الله الكتب والشرائع وأرسل الأنبياء مبشرين ومنذرين ومعلمين لكي يقوم الناس ـ كل بحسب درجته الوجودية ـ بأعباء الخلافة وإقامة العدل والقسط، قال تعالى: (وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَالْمِيزانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ) فالولاية والسلطنة لله سبحانه وحده ولمن أذنَ له ممن يرتضيه، قال تعالى: (إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ * وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغالِبُونَ).
وبغير هذه الولاية والسلطنة لا تُحفظ مقاصد التشريع ولا تحقق الخلافة الأرضية أهدافها الربانية، ونظرةٌ إلى واقع الإنسان الذي تولى غير هذه الولاية تؤكد صحة هذا الحكم.
المحور الثاني
مراحل الاستخلاف التأريخية:
عند استعراضنا لحركة التأريخ الإنساني بشكل عام بدءاً من آدم عليه السلام وإلى يومنا الحالي، نجد ان عملية الخلافة في الأرض قد مرّت بمرحلتين متمايزتين:
الأولى: كان الناس أمةً واحدة فبعث الله سبحانه الأنبياء مصلحين ومبشرين ومعلمين ومبينين لهم الصراط المستقيم الذي يجب عليهم اتباعه وركوب محجته البيضاء وإقامة العدل والقسط وفي التنازع والاختلاف.
وحركة الأنبياء تمثل الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى ورفض غيره من الأصنام المادية والبشرية، وقد استطاعت هذه الحركة أن تربّي العقل الإنساني وتوصله إلى مرحلة النضج اللازمة لاستقبال الرسالة الخاتمة.
الثانية: وقد بدأت هذه المرحلة التأريخية ببعثة الخاتم المصطفى محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، بعدما تهيأت النفوس ونضجت العقول لفهم الشريعة وقيادة عملية الاستخلاف الإلهي في الأرض.
هذا على مستوى الرشد والعقل والنضج، أما على المستوى الواقعي فلم يتحقق الاستخلاف وبحسب المراد الإلهي والوصايا المبلغة بالشريعة الإسلامية لوجود المنافقين وأصحاب الطمع الدنيوي، ولعدم قدرة الأمة الإسلامية ـ بسبب قوة الخط الشيطاني ـ على قبول ونصرة الوصي، بل إختارت لنفسها ما تخيّلت أنه الأفضل لها، فتأخر الحكم الإلهي في الأرض إلى حين من الدهر، عانت ولا زالت الأمة الإسلامية بل والإنسانية المصائب والويلات والكوارث من سوء إختيارها، وإلى أن تعي وتقبل حكم الله على يد الولي المستخلف في النهاية، عليها أن تتحمل سوء إختيارها وعزوفها عن حكم الخليفة الإلهي.
وبحسب المراحل الحركية التي تحركت فيها الخلافة الأرضية، نرى إنها اتخذت ثلاث مسارات متفقة حيناً ومختلفة حيناً آخر وبحسب الآتي:
١ ـ مسار أصحاب السقيفة (أهل السنة).
٢ ـ مسار أهل البيت عليهم السلام (الشيعة الإمامية).
٣ ـ مسار باقي الملل (اليهود والنصارى).
ويمكن توضيح هذه المسارات بالمخططات الآتية:
١ ـ المسار الأول (أهل السنة):
بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم،الخلافة الراشدة للخلفاء الأربعة ،خلافة الملوك والسلاطين من أهل الدنيا،سقوط الخلافة العثمانية، قيام حكومات وأنظمة وضعية، مرحلة تشتت وفرقة واختلاف وفتن، قيام الإمام المهدي عليه السلام في آخر الزمان (من علامات الساعة)، قيام القيامة، العودة إلى الله تعالى.
٢ ـ المسار الثاني: (الشيعة الإمامية)
بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، السقيفة وابعاد الإمام علي عليه السلام عن خلافة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، إقصاء أهل البيت عليهم السلام من الخلافة، قتل أئمة أهل البيت عليهم السلام، غياب الإمام المهدي عليه السلام في الغيبة الصغرى، الغيبة الكبرى للإمام المهدي عليه السلام، دور الشهادة للمرجعية الدينية، ظهور الإمام المهدي عليه السلام ، قيام، خلافة الإنسان الكامل ـ المهدي عليه السلام ـ في الأرض، إقامة القسط والعدل (تحقيقاً لقوله تعالى (إِنِّي جاعِلٌ فِي الأَْرْضِ خَلِيفَةً)، نزول البركات، تحقيق المجتمع الموحد لله، تحقيق الغاية من الاستخلاف، قيام القيامة، العودة إلى الله تعالى.
٣ ـ المسار الثالث: مسار باقي الملل
الناس أمة واحدة، بعث الله الأنبياء، إبراهيم عليه السلام ، موسى عليه السلام.
قسم بعد موسى عليه السلام:
الأول: المسار المسيحي ثم عيسى عليه السلام ثم الحواريون ثم الاستبداد الكنسي ثم اضطهاد العقل والعلماء ثم الثورة الصناعية وحصول رد الفعل ضد الكنيسة ثم فصل الدين عن الحياة والسلطة ثم قيام المذهب الفردي والنفعي (اللبرالية) ثم البرجوازية الرأسمالية وإلى قسمين أيضاً كالأمبريالية وقيام الشيوعية وتنتهي الشيوعية بانهيارها عام ١٩٩١ الأمبريالية ثم العولمة ثم العتو والاستكبار ثم إنهيار الأنظمة الاستكبارية ثم ظهور الاسلام على يد خليفة الله على الدين كله ثم الإنسانية الموحدة لله تعالى ثم تحقيق الغاية من الخلافة ثم القيامة ثم العودة إلى الله تعالى.
والثاني: المسار اليهودي ثم الضياع والتيه ثم قيام إسرائيل ثم حصول العلو الأكبر لليهود في العالم أجمع ثم ملئهم الأرض بالفساد والظلم ثم تحطيم العلو اليهودي على يد الإمام المهدي وأنصاره.
الغاية من الخلق:
بيّن القرآن الكريم والسنة المطهرة في الكثير من المواضع الغاية من خلق الخلق، وهو سؤال سرمديّ حاول الإنسان عبر التأريخ الإجابة عليه وبحسب منظومته العقيدية والحضارية، وبالنسبة للعقيدة الإسلامية فقد أكّد الله سبحانه وتعالى ـ باعتباره أحكم الحاكمين ـ على غايته من خلق الخلق مراراً ودعا الإنسان إلى التفكر والتدبر في الخلق والوجود والسير بهدي العقل ونور الفطرة الموحدة لله سبحانه للوصول إلى الكمال.
قال تعالى: (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ).
وقد استنكر الباري على الناس عدم معرفتهم بالغاية من خلقهم قائلاً لهم: (أَ فَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ).
فالغاية من خلق الإنسان هي أن يتصف بالصفات الإلهية الفعلية وإكتساب الكمالات ليكون مؤهلاً لإقتحام دار الخلود والفوز برضى الله تعالى.
فالحياة الدنيا كما تؤكد الآيات الشريفة هي المرحلة التأهيلية للرجوع إلى الله سبحانه وبحسب إختيار الإنسان، قال تعالى: (إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً).
فَـ (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَ مَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ).
والخلاصة التي نحصل عليها من فهمنا للغاية من الخلق هو إتصالها بصفة الرحمة الإلهية التي وسعت كل شيء ومن ضمنها خليفة الله سبحانه في الأرض.
مراحل الغاية:
من خلال استقرائنا للآيات القرآنية نستطيع ان نقسم الغاية من الخلق إلى مراحل خمسٍ رئيسة:(٨)
١ ـ المرحلة الأولى: تحقيق الخلافة الإلهية في الأرض وبحسب المراد الإلهي لا بحسب ما يريده الإنسان المادي المرتبط بنشأة الطين، وسيكون مصداق الخلافة الأكبر والنهائي على يد الإمام المهدي عليه السلام وكما وعد الله سبحانه وتعالى: (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَْرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً) فهو وعد إلهي محتوم بوراثة الأرض وما عليها للخط الإلهي الذي استضعفه طغاة الأرض وأكابر مجرميها عبر التأريخ الإنساني.
٢ ـ المرحلة الثانية: بعد إقامة حكم الله سبحانه على يد الخليفة الرباني وأنصاره وجماهيره بعد استنفاذ خلافة من سبقه، ستتحرك الإنسانية في خط تصاعدي، وتعبد الله عبادة معرفية قال تعالى: (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِْنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ).
وهذه العبادة المعرفية تكمل نقص الإنسان وتجبر فقره الوجودي.
٣ ـ المرحلة الثالثة: وصول الإنسان والإنسانية إلى مقام اليقين في العبادة والاعتقاد والسعي، قال تعالى: (وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ).
وهنا لا يتبادر إلى الذهن أن حرف (حتى) الوارد في هذه الآية الشريفة يعني التوقف، بل تحقق الرتبة وحصول المقام اليقيني ورؤية الملكوت، قال تعالى: (وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالأَْرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ) والتصاعد الكمي والنوعي في حركة الإنسان الإرتقائية الكدحية إلى الله تعالى، قال تعالى: (يا أَيُّهَا الإِْنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ).
٤ ـ المرحلة الرابعة: تحقق الجنة المهدوية في الأرض وإنفتاح عالم الغيب على عالم الشهادة وتعتبر هذه المرحلة، مرحلة تأهيلية ممهدة إلى مرحلة جنان الخلد، قال تعالى: (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ * فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ).
٥ ـ المرحلة الخامسة: حصول القرب من الله سبحانه ونيل مرضاته والإرتباط بالكمال الإلهي في جنان الخلد قال تعالى: (وَإِنَّهُمْ عِنْدَنا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الأَْخْيارِ) في (جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الأَْبْوابُ * مُتَّكِئِينَ فِيها يَدْعُونَ فِيها بِفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرابٍ * وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ أَتْرابٌ * هذا ما تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسابِ * إِنَّ هذا لَرِزْقُنا ما لَهُ مِنْ نَفادٍ).
المصادر
١ ـ القرآن الكريم
٢ ـ إحسان العارضي، فلسفة الاستخلاف الإلهي، الطبعة الأولى، ٢٠٠٤م.
٣ ـ الراغب الاصفهاني، مفردات ألفاظ القرآن، تحقيق صفوان عدنان داوودي، انتشارات ذوي القربى، الطبعة الرابعة، ١٤٢٥هـ. ق ـ ١٣٨٣هـ.ش.
٤ ـ السيد محمد باقر الصدر، الإسلام يقود الحياة، مركز الأبحاث والدراسات التخصصية للشهيد الصدر، الطبعة الثانية، ١٤٢٤هـ.
٥ ـ السيد محمد باقر الصدر، المدرسة القرآنية، مركز الأبحاث والدراسات التخصصية للشهيد الصدر، الطبعة الثانية، ١٤٢٤هـ.
٦ ـ السيد محمد محمد صادق الصدر، موسوعة الإمام المهدي عليه السلام ، اليوم الموعود بين الفكر المادي والديني، إنتشارات ذوي القربى، الطبعة الثانية، ١٤٢٥هـ .ق ـ ١٣٨٣ هـ.ش.
٧ ـ السيد محمد حسين الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، منشورات دار المجتبى للمطبوعات، إيران ـ قم، الطبعة الأولى، ١٤٢٥هـ ـ ٢٠٠٤م الجزء الأول.
٨ ـ الشيخ محمد حسن القبيسي العاملي، ماذا في التأريخ، الطبعة الثانية، ١٤١٣ هـ ـ ١٩٩٣م. الجزء الرابع عشر.
الهوامش
(١) بحث مقدم للمشاركة في المؤتمر العلمي الأول في الإمام المهدي الذي عقده مركز الدراسات التخصصية في الإمام المهدي عليه السلام في مدينة النجف الأشرف في ٢٢ تموز ٢٠٠٧.
(٢) مفردات ألفاظ القرآن، ص ٢٩٤.
(٣) الميزان في تفسير القرآن، ج١ ، ص ١١٦ ـ ص١١٧.
(٤) ينظر: سورة البقرة: ٣١.
(٥) الإسلام يقود الحياة، ص ١٤٤.
(٦) فلسفة الاستخلاف الإلهي،ص٤.
(٧) ماذا في التأريخ، مصدر سابق، ص٣٠.
(٨) فلسفة الاستخلاف الإلهي، مصدر سابق، ص١٦.