البحث في العدد ١٣:
 الصفحة الرئيسية » اعداد المجلة » العدد ١٣/ جمادى الآخرة/ ١٤٤٣هـ » الميعاد المهدوي بين الإعجاز والسنن
 العدد ١٣/ جمادى الآخرة/ ١٤٤٣ه

المقالات الميعاد المهدوي بين الإعجاز والسنن

القسم القسم: العدد ١٣/ جمادى الآخرة/ ١٤٤٣هـ الشخص الكاتب: الشيخ عمار البغدادي التاريخ التاريخ: ٢٠٢٢/٠١/١٢ المشاهدات المشاهدات: ١٨٩٧ التعليقات التعليقات: ٠

الميعاد المهدوي بين الإعجاز والسنن

الشيخ عمار البغدادي

مقدمة:
لا نبالغ إذا قلنا إنه ما من شيء يثير فضول الإنسان ورغبته كما يثيره ويغريه معرفة ما يخفيه عنه المستقبل ولأجله صار يتوسل بكل الوسائل والسبل للكشف عنه والتعرف عليه، ولو عن طريق الكهانة أو التنجيم لعلمه أن عبور الإدراك والوعي الإنساني إلى ضفة الزمان الأخرى، واستشراف ما يحمله من مفاجئات سوف يوفر ويدرّ عليه الكثير وينبهه إلى ما يخشاه ويحذر منه مما لم يكن في حسبانه وتوقعاته.
ومن هنا تأتي أهمية دراسة فلسفة التاريخ والسنن الاجتماعية الحاكمة في الأُمم أو الحضارات باعتبارها مفردة من مفردات نظام السببية المولدة والمنتجة للحدث في مستقبل حياة الإنسان ومصيره الذي ينتظره.
ولعل إشكالية الإرادة الحرة قد تطفو على السطح بين تلك الأُمنية الكبيرة التي تحاول أن تتجاوز الحجاب الزماني الذي يغلف قادم الأيام وبين المقولة التي تذهب إلى أن القوانين والأقدار قاضية بمضامينها على مجريات الأمور، ومن هنا تنبثق جدلية حتمية التاريخ مع فكرة سلطة الإنسان ومدى تأثيره في مجمل الوقائع والقضايا المستقبلية.
فإن الإنسان إن كان حراً ومطلق السراح في رسم نهايته ومصيره اللامتعين، فما معنى أن نتحدث عما سيجري وما سيقع، وإن كان مقيداً لا حول له ولا قدرة، فما معنى أن نحثه على دراسة تلك النظم وتلك القوانين بعد عجزه عن إمكانية تغيير المواقف والتحولات.
وهذه الجدلية هي إحدى الأسباب التي قسمت المفكرين إلى فريقين وفي اتجاهين مختلفين:
١ - من يعتقد أن أحداث التاريخ ليست سوى سلسلة من المصادفات والاتفاقات الناشئة من فوضى الإنسان والتي لا تعود إلى قواعد كلية.
٢ - من يعتقد أن مسيرة التاريخ والمجتمع عابرة لاستقلالية الفرد وحريته ومحكومة لنظام السنن المقننة سلفاً.
وبين هذه الوجهة وتلك لا يخفى التباين والافتراق الكبير بين هاتين الفكرتين.
بطبيعة الحال ستكون نتيجة تلك الدراسة والمعرفة بحسب النظرية الأولى لا تتجاوز التسلية وتضييع الوقت بعد فقدها لكل عطاء تربوي أو ما يصلح للاستفادة منه في رسم ملامح المستقبل، بينما في مؤدى النظرية الثانية فإن للمجتمع الإنساني كينونة في أجزاء هذا العالم ويعود خاضعاً لقوانينه الكلية وقواعده العامة، وبذلك يصلح لأن يكون موضوعاً للدراسة والبحث وجديراً بأن يُستفاد منه ويُعتبر به.
وحتى لا نطيل في المقدمة أكثر مما نحتاج إليه في التمهيد لموضوع بحثنا الذي يتصل بحتمية اليوم الموعود وما يتحقق فيه من بسط العدل والحق على يد الإمام المنتظر (عجَّل الله فرجه)، يطل علينا القرآن الكريم لإثبات حقيقتين ناصعتين يؤكد في الأولى منهما أن التاريخ والمجتمع الإنساني محكوم بنظام صارم ووفق قانون لا يقبل التغير والاستثناء، وبناء على هذه الرؤية فإن القرآن الكريم يرفض بشدة النظرة العبثية والاعتباطية التي قد يتوهمها البعض في مجاري الأحداث والظواهر التاريخية.
يقول تعالى: ﴿فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَحْوِيلاً﴾ (فاطر: ٤٣).
وفي ذات هذا السياق الثابت يعود القرآن الكريم ليؤكد الحقيقة الثانية التي تؤشر إلى تأثير الإرادة الإنسانية والسلوك الإنساني في صناعة الحدث ووقوعه، يقول تعالى: ﴿إِنَّ اللهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ﴾ (الرعد: ١١).
وقد يبدو على ضوء هذين الثابتين أن مآلات الأحداث ونهاياتها لا تتجاوز القرار الإنساني فيما يريد أو ما لا يريد، وهو الأمر الذي يأباه القرآن الكريم حينما يؤكد في عدة آيات قرآنية أن وقائع المستقبل ليست على نمط واحد أو حقيقة واحدة، فمنها ما يعود محضاً للإرادة الإلهية ومشيئته الحاسمة لا يشترك معها أحد في صياغتها وتكوينها، ومنها ما يعود إلى الإنسان وإرادته ليصبح الأمر بعد ذلك أشبه بالفكرة التي تنتهي إلى كون الإنسان مجبوراً في جهة ومفوضاً إليه في جهة أخرى، وهو الشرح الذي قد يعتمده البعض في فهم ما ورد عن أهل بيت العصمة (عليهم السلام) في قولهم: «لا جبر ولا تفويض ولكن أمر بين أمرين»(١).
وهو ما نرفضه ونعجز عن اقتناصه ورصده من الحديث السابق والذي ظاهره النفي للجبر والتفويض على كلا المستويين لا أنه يؤكد على إثباتهما وإرسائهما سوية وإنما الذي نفهمه من الحديث أنه بصدد الرفض لكلا الفكرتين لما يترتب على كل منهما محذور عقائدي لا ينسجم مع العقيدة الإسلامية وعمقها المعرفي.
فإن عنوان التفويض إن كان يتعارض مع حاكميته تعالى وسلطنته على خلقه فإن الجبر هو الآخر يتنافى مع عدله ورحمته تعالى، ولذا نجد أنفسنا غير منسجمين مع الفهم السابق الذي يستهدف الإثبات لهذين العنوانين جميعاً ولو بشكل جزئي ليمزج بينهما خلطة وتوليفة تحفظ شيئاً من السلطة الإلهية هنا، وشيئاً من الحرية الإنسانية هناك.
ولذلك نقدم رؤية مغايرة لما تقدم من خلال المقاربة التي نميل إليها في بيان معنى الحديث تقوم على أساس إثبات الإرادة الإنسانية وحريتها فيما قررته المشيئة الإلهية وإرادته لها، ولكن لا على نحو التفويض وإطلاق السراح بل في ضمن الأقدار والسنن التي انبثقت عن أسماء الله تعالى وصفاته الحسنى، فالإنسان على كل حال يبقى حراً بقرار إلهي لا بقرار منه، وحركته التاريخية لا تخرج أيضاً عن هذا المعنى لأنه محكوم في مسارات واتجاهات رسمتها السماء سلفاً لا يستطيع دفعها وتغييرها، يقول تعالى: ﴿يا أَيُّهَا الإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ﴾ (الانشقاق: ٦)، ويقول تعالى: ﴿وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ المُنْتَهى﴾ (النجم: ٤٢).
ومن ضمن تلك المسارات والنهايات هو ما أكدته عدة من الآيات القرآنية الكريمة التي نصَّت على أن نهاية التاريخ سوف تتوقف عند المصير المحتوم بانتصار الحق ودحض الباطل إلى غير رجعة لتستند تلك الحقيقة المستقبلية على محض الإرادة الإلهية في اتخاذ ذلك القرار وذلك الثابت.
يقول تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالهُدى وَدِينِ الحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ المُشْرِكُونَ﴾ (التوبة: ٣٣؛ الصف: ٩).
ويقول عز من قائل: ﴿وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ﴾ (الأنبياء: ١٠٥).
وهو ذات المعنى الذي أكدته روايات أهل البيت (عليهم السلام) وما استفاضت به أحاديثهم الشريفة، فقد ورد عن النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم): «والذي بعثني بالحق نبيا لو لم يبق من الدنيا إلّا يوم واحد لطول الله ذلك اليوم حتى يخرج فيه ولدي المهدي فينزل روح الله عيسى بن مريم فيصلي خلفه وتشرق الأرض بنوره ويبلغ سلطانه المشرق والمغرب»(٢).
وكذلك ما رواه النعماني في غيبته عن داود بن أبي القاسم، قال: كنا عند أبي جعفر محمد بن علي الرضا (عليهما السلام) فجرى ذكر السفياني وما جاء في الرواية من أن أمره من المحتوم، فقلت لأبي جعفر (عليه السلام): هل يبدو لله في المحتوم؟ قال: «نعم»، قلنا له: فنخاف أن يبدو لله في القائم، قال: «القائم من الميعاد»(٣).
ولا أوضح من حتمية هذا اليوم بعد توصيفه من قبل الإمام الباقر (عليه السلام) بكونه من الميعاد الذي لا يعرضه البداء ضرورة ﴿إِنَّ اللهَ لا يُخْلِفُ المِيعادَ﴾ (آل عمران: ٩؛ الرعد: ٣١)، ليدلل بعد ذلك على أن القرار في ذلك يعود حصراً للإرادة الإلهية فيما شاءته وحكمت به.
وأمّا العلة في ذلك والسبب فيه، فله بحث آخر لعلنا نتطرق إليه في دراسة قادمة إذا وفقنا الله تعالى لذلك.
والنتيجة التي ننتهي إليها بعد هذا البيان أن حرية الإنسان وقراراته في رسم مصير التاريخ ومستقبله إنما هي فاعلة من جهة ومنفعلة من جهة أخرى، فلا هو مجبور في حركته وسلوكه ولا هو حر ومفوض إليه في رسم النظام والمخطط الذي تشكله الأقدار الإلهية.
وبذلك استطعنا أن نقدم رؤية نعتقد بسلامة مضمونها ومدلولها في فهم الحديث السابق لا يتناقض مع ظاهره ولا مع عمقه العقائدي والذي ينسجم مع تحمل الإنسان لمسؤولياته وواجباته ولا يتجاوز الذات الإلهية في سلطنتها وحاكميتها على الكون ونظامه الذي قرره وأبدعه.
الإنسان واليوم الموعود:
مع تأكيدنا السابق على أن قرار اليوم الموعود منحصر بالإرادة الإلهية محضاً، فلا يعني ذلك بأي حال أن تحقق ذلك اليوم فاقد للشروط والأركان التي تقتضي التعجيل به أو التأجيل؛ ضرورة أن هذا المشروع الإلهي إنما هو معنيٌّ بسعادة الإنسان وتحقيق كماله الفردي والاجتماعي، لاسيما بعد الذي أوضحناه من إثبات حرية الإنسان وتأثير خياراته وفاعليتها في حركة التاريخ، فإن دولة الإمام القائم (عجَّل الله فرجه) وإن كانت قَدَراً حتمياً لا ترتضي السماء بالتنازل عنه أو الزهد فيه، ولكنها علَّقت أمر توقيته وتوفير شروط تحققه اعتماداً على سير الإنسانية إليه بخطاها هي، لا بخطى غيرها، حاله حال كل العطايا والمواهب التي أرادها الله تعالى لخلقه أو أفاض بها عليهم ليكون بلوغ تلك العطية وتلك الهبة الإلهية بحاجة لأن يمضي الإنسان هو في طريقها وسبيلها.
ولا يخفى أن هذا المعنى مطَّرد وشامل في جريان السنن الإلهية وطبيعة انطباقها على مصاديقها، ومن هنا يقرر القرآن الكريم أن للإرادات الإلهية أجلين وموعدين، أحدهما متحرك ومتغير يُعبر عنه أحياناً بالأجل الموقوف، والآخر ثابت ومستقر يُعبر عنه بالأجل المسمى، وفي الأول منهما أنت تذهب إليه وفي الثاني هو الذي سيأتي إليك، حاله كحال ظاهرة الموت الذي كتبه الله علينا، فإنَّ انتهاء عمر الإنسان على الأرض يخضع لذات المعادلة، فهو من جهة ظاهرة حتمتها الإرادة الإلهية وحكمت بها ابتداء، يقول تعالى: ﴿أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ المَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ﴾ (النساء: ٧٨)، ومن جهة أخرى فإن ملاك تحديد عمر الإنسان يعود في أجله الأول إلى قراره هو واختياره، ولكن لا يعني ذلك أن هذا الامتداد الزمني لعمر الإنسان مبذول إلى ما لا نهاية، بل هناك الأجل الثابت الذي يأتي إليه في نهاية المطاف مهما راعى الإنسان الجوانب المادية أو المعنوية التي تؤثر في طول العمر وبقائه.
وهكذا بالنسبة للدولة المهدوية، فلها أجل متغير يمكن أن تتحرك نحوه الإنسانية وتصل إليه فيما لو وفَّرت عناصر الاستعداد والمقومات التي تؤهلها للقيام بها وإنجاح مشروعها؛ ضرورة أن تلك الدولة مشروطة في ضمن بعض مقتضياتها بوجود النخبة المناصرة والمستعدة للتضحية، كما في رواية الإمام الجواد (عليه السلام): «فإذا اجتمعت له هذه العدة من أهل الإخلاص أظهر الله أمره، فإذا كمل له العقد وهو عشرة آلاف رجل، خرج بإذن الله (عزَّ وجلَّ)، فلا يزال يقتل أعداء الله حتى يرضي الله (عزَّ وجلَّ)»(٤).
مضافاً إليها الانعطافة المجتمعية نحو الوعي والإدراك الذي ينتهي بها إلى القناعة التامة بفشل كل الحلول الوضعية والأرضية التي مرَّت عليها في مسيرتها التاريخية؛ لتختزن تلك التجارب ويحضر لديها في ذاكرتها المعرفية الإقرار والاعتراف بقصورها في تحقيق الهدف الذي سعت إليه كثيراً، والذي ما زالت تحمله في فطرتها وصميم ذاتها، ألا وهو نشر العدل والقسط في كل ما يرتبط به من معانٍ سامية ونبيلة، وهو المعنى الذي يرشح بوضوح من بعض ما ورد عن أهل البيت (عليهم السلام)، فقد جاء عن الإمام الباقر (عليه السلام): «فخروجه (عليه السلام) إذا خرج يكون عند اليأس والقنوط من أن يروا فرجاً»(٥).
حتى تبلغ الأمور ذروتها في الحلقة الأخيرة من مسيرة الإنسانية قبل ظهور الإمام (عجَّل الله فرجه) ليستشعر الناس حينذاك عجزهم التام عن إصلاح أوضاعهم، وليتصل عجزهم من غير أمل يلوح في الأُفق إلّا على يديه المباركتين لتنتهي هذه الأزمات وتتوقف الحروب ويعم السلام.
وقد اجتمع كلا هذين المعنيين اللذين هما محل الكلام أعني (الأجل الثابت والمتغير والملاك فيهما) في حديث الإمام الصادق (عليه السلام) في سياق حديثه عن بني إسرائيل والفرج الذي حصل لهم على يد نبي الله موسى (عليه السلام) مقارنة بالفرج الذي تنتظره البشرية على يد الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه).
فقد روى العياشي في تفسيره عنه (عليه السلام): «لما طال على بني إسرائيل العذاب ضجوا وبكوا إلى الله أربعين صباحاً، فأوحى الله إلى موسى وهارون يخلصهم من فرعون، فحطَّ عنهم سبعين ومائة سنة»، قال: وقال أبو عبد الله (عليه السلام): «هكذا أنتم لو فعلتم لفرج الله عنا، فأمّا إذا لم تكونوا فإن الأمر ينتهي إلى منتهاه»(٦).
والرواية واضحة بتعدد الأجل في توقيت ظهور الإمام (عجَّل الله فرجه) أحدهما يعتمد على مدى تفاعل الناس وإيمانهم بالمخلص والمنقذ المجعول من قبل الله تعالى، والأجل الثاني هو المنتهى الذي سوف يصل إليه التاريخ بصورة حتمية كالباب الوحيد الذي يكون للدار ولا يمكن الخروج أو النفوذ إلّا من خلاله.
فإذا رفضت البشرية هذه المسيرة وهذا السبيل فإن ذلك لن يؤدي إلى إلغاء هذه الإرادة وهذا القرار بناء على تقاعس الناس وتهاونهم، فإن الله تعالى غالب على أمره، بل لهم أجلٌ هم بالغوه، فإن وصلوا إليه وإلّا جرت سُنَّة الاستبدال، يقول تعالى: ﴿وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ﴾ (محمد (صلّى الله عليه وآله وسلّم): ٣٨)، ويقول تعالى: ﴿إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ﴾ (التوبة: ٣٩)، وقد ورد هذا المعنى عن الإمام الصادق (عليه السلام) في كتاب الغيبة للنعماني: «إن صاحب هذا الأمر محفوظ له، لو ذهب الناس جميعاً أتى الله له بأصحابه وهم الذين قال لهم الله (عزَّ وجلَّ): ﴿فَإِنْ يَكْفُرْ بِها هؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنا بِها قَوْماً لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ﴾ [الأنعام: ٨٩]، وهم الذين قال الله فيهم: ﴿فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى المُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الكافِرِينَ﴾ [المائدة: ٥٤]»(٧)، ولأجل ذلك ورد في التوقيع الشريف للإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) الذي خرج لإسحاق بن يعقوب: «وأكثروا من الدعاء بتعجيل الفرج، فإن ذلك فرجكم»(٨).
الدولة المهدوية بين السببية والإعجاز:
(لله تعالى غايات وإرادات ونهايات لابد أن تمضي)، حقيقة جاءت على لسان أمير المؤمنين (عليه السلام) في سياق جوابه للأصبغ بن نباته حين سأله عن حتمية عصر الظهور، ولا أراني بحاجة لإثبات هذا المعنى بعد أن أكده القرآن الكريم في عديد الآيات القرآنية والتي تتوافق معها مئات الأحاديث الشريفة التي تحمل هذا المضمون، بل وإطباق جميع الديانات السماوية التي انسجمت فيما بينها حول فكرة محددة تذهب إلى أن المستقبل النهائي لمسيرة الحياة على الأرض هي انتصار أطروحة العدل على أطروحة الظلم وسيادة الإيمان والحق والعلم على كل ما يتعارض مع هذه المعاني والمضامين، تلك إذاً هي الإرادة الإلهية التي لا تقبل المحو والتغيير أو النقض والتبديل، ولا شك أن لله تعالى طريقته في كل حادث وميعاد تتعلق مشيئته وإرادته به وإن كانت السبل المعتادة والطرق المألوفة مقطوعة منتفية بحسب نظرنا.
ذلك هو الذي يلفت انتباهنا إليه القرآن الكريم ويحكيها المطلق من قوله تعالى: ﴿وَاللهُ غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ﴾ (يوسف: ٢١)، وقوله تعالى: ﴿إِنَّ اللهَ بالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً﴾ (الطلاق: ٣).
وإنما الكلام في خارطة الطريق التي تنتهي إلى ذلك، وهي لا تخلو من أحد أمرين:
الأمر الأول: فإمّا أن تتم بالقدرة التكوينية الابتدائية أي هي إفاضة وراء الأسباب المادية والعلل الطبيعية، وإنما تحصل بالإرادة الإلهية فقط، لأن الله تعالى يريد ذلك.
الأمر الثاني: وإمّا أن يكون هناك سبب طبيعي مستور وغائب عنا أحاط به سبحانه علماً، وخفي علينا، فيكون هو السبيل لتحقيق إرادته، ولا ريب أن كِلا الوجهين على مستوى الثبوت والإمكان يشكلان نظريتين لا يلزم من افتراضهما امتناع ولا مخالفة، لا من جهة العقل ولا النقل، فالباري تعالى له القدرة المطلقة فيما يشاء أو يريد لكونه الحاكم الذي لا معقب لحكمه بنقض ولا تغيير، كما أن علمنا مهما بلغ وتطور فإنه يبقى قاصراً وعاجزاً عن الإحاطة بنظام الأسباب والسنن، وإنما لنا منه محاولة الاستشكاف والمعرفة، ضرورة أن تلك الأسباب وتلك السنن منبثقة عن أسمائه الحسنى وصفاته العليا، والتي لا إحاطة لنا بمعرفتها وإدراكها إلّا من وجه، وعلى نحو جزئي، إلّا أن قوله تعالى: ﴿جَعَلَ اللهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً﴾ (الطلاق: ٣) يؤيد الوجه الثاني دون الأول، فهي واضحة في أن كل الأحداث والوقائع لا تخرج عن نظام الأقدار والأسباب، سواء علمنا بذلك أم لم نعلم، ضرورة أن تلك الأسباب مع ما بينها وبين نتائجها من اتصال وارتباط لم يكن هو مملوكاً لها في أنفسها حتى تطيع في حال وتعصي في حالة أخرى، بل هي مجعولة من قبله تعالى ومنقادة له.
ومن هنا يكون واضحاً لدينا أن ما حتمه الله تعالى وحكم به متحقق لا محالة، فله القدرة للوصول إليه من أي وجه شاء أو أراد، ولا يبقى بعد ذلك معنى للاستغراب أو الاستبعاد في كون الدولة المهدوية هي الميعاد الذي لن تتخلف عنه طبيعة الأشياء أو مقتضيات ظروفها، وليس ذلك كما لا يخفى تعطيلاً لنظام السببية أو نفياً لنظام العلية، بل إثبات لكونها بيده سبحانه وتعالى يوجهها حيث يشاء وحيث أراد، وعلى ضوء ذلك يمكن أن نفهم أن الفترة الطويلة التي تستغرقها غيبة الإمام (عجَّل الله فرجه) لم تكن بعيدة في مرحلة التوقيت عن ذلك النظام العام الذي يحكم العالم والمجعول من قبله تعالى، وإن كانت في أصل وجودها ووقوعها ترجع إلى قرار إلهي لا يقبل التخلف والاختلاف، وهذا هو ما أكدته الأحاديث في أكثر من موضع ومقام، فقد جاء في عدة أحاديث عن أهل بيت العصمة وفي عدة صياغات ما يُضفي هذا المعنى فقد ورد عن النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قوله: «لو لم يبق من الدهر إلّا يوم لبعث الله رجلاً من أهل بيتي، يملؤها عدلاً كما ملئت جوراً»(٩).
وما جاء عن الإمام الجواد (عليه السلام): «والذي بعث محمداً بالنبوة وخصنا بالإمامة، أنه لو لم يبق من الدنيا إلّا يوم لطوَّل الله ذلك اليوم حتى يخرج فيه فيملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً»(١٠).
بطبيعة الحال قد تختلف وجهات النظر وتتعدد الرؤى عند محاولة استنباط الملاكات والأسباب التي تقف وراء حتمية الدولة المهدوية ولزوم كونها الخاتمة التي ينتهي ويتوقف عندها التاريخ الإنساني، ولكن ما لا يمكن أن نختلف فيه هو عدم خلوها من معنى عميق يرتبط بالشأن الإلهي والحكمة الإلهية، ولعل هذا ما يفسر لنا التأكيد الذي انتهجته الروايات في بيان أنها (سر من سر الله) أو (غيب من غيب).
وهو ما نلمحه في قول الإمام الصادق (عليه السلام) لعبد الله بن الفضل الهاشمي: «إن هذا الأمر من أمر الله تعالى، وسر من سر الله، وغيب من غيب الله، ومتى علمنا أنه (عزَّ وجلَّ) حكيم صدّقنا بأن أفعاله كلها حكمة، وإن كان وجهها غير منكشف»(١١).
أو كقول الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) لأحمد بن إسحاق: «يا أحمد بن إسحاق، هذا أمر من أمر الله، وسر من سر الله، وغيب من غيب الله خذ ما آتيتك واكتمه وكن من الشاكرين تكن معنا غداً في عليين»(١٢).
ومجرد عدم معرفتنا اليقينية بذلك لا يلغي كونها واقعاً آتٍ، سواء فهمنا سره أم لم نفهمه، بعد أن أصبحت ضرورة إسلامية لا ينكرها إلّا الشاذ والمتقوِّل برأيه واجتهاده.
كما أن التفسير الذي يحاول تبسيط حقيقتها ومغزاها بأنها لا تعدو أن تكون عملية تعويض واسترداد للملك الذي غُصب من أهل البيت (عليهم السلام) هو الآخر لم يكن وارداً في سياق أحاديث المعصومين (عليهم السلام) أو في تعريفهم عنها، فقد جاء عن المفضل بن عمر في حديث قال: قال الصادق (عليه السلام): «أحسنت يا مفضل، فمن أين قلت برجعتنا؟ ومقصرة شيعتنا تقول: معنى الرجعة أن يردّ الله إلينا ملك الدنيا وأن يجعله للمهدي (عجَّل الله فرجه)، ويحهم متى سُلبنا الملك حتّى يردّ علينا»، قال المفضل: لا والله وما سلبتموه ولا تسلبونه لأنّه ملك النبوّة والرسالة والوصية والإمامة(١٣).
دور المعجزة في الدولة المهدوية:
ينبغي أولاً: الالتفات إلى قضية مهمة ترتبط بحقيقة المعجزة وماهيتها، فليس كل أمر خارق للطبيعة أو على خلاف ما اعتاده الناس يُصطلح عليه بالمعجزة، وإنما تطلق على ما يأتي به المعصوم (عليه السلام) في مقام التحدي لإثبات حجيته وسفارته عن الله تعالى، وقد سأل أبو بصير الإمام الصادق (عليه السلام): لأيّ علّة أعطى الله (عزَّ وجلَّ) أنبياءه ورسله وأعطاكم المعجزة؟ فقال: «ليكون دليلاً على صدق من أتى به والمعجزة علامة لله لا يعطيها إلّا أنبياءه ورسله وحججه ليُعرف به صدق الصادق من كذب الكاذب»(١٤).
وقد تحصل الخوارق لبعض الأنبياء والأولياء (عليهم السلام) في سياق الكرامة وإثبات الوجاهة عند الله تعالى، ولا تسمى حينئذٍ بالمعجزة لأنهم ليسوا في مقام التحدي أو مقام إثبات الحجة على الآخر المعترض، كما قد نرى ذلك في سيرة مريم (عليها السلام) وكيف أن الله تعالى كان يرزقها وراء الأسباب الطبيعية المعتادة ﴿كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا المِحْرابَ وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً﴾ (آل عمران: ٣٧)، أو ما جاء في حق آصف بن برخيا وما ظهر منه في نقل عرش بلقيس ملكة سبأ في سرعة خاطفة من اليمن إلى فلسطين على يده كما جاء في قوله تعالى: ﴿قالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الكِتابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ﴾ (النمل: ٤٠).
وبعد هذا التوضيح نقول:
أمّا ثانياً: فبالنسبة للإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) فقد جاءت الروايات المتواترة لتؤكد أن الإمام (عجَّل الله فرجه) سيكون محفوفاً بالمعجزات والخوارق عند ظهوره الشريف لإثبات مهدويته وحجيته، فلا طريق لذلك إلّا هذا الطريق ابتداءً من النداء السماوي وانتهاءً بكل المعجزات التي جاء بها الأنبياء السابقون (عليهم السلام) فقد جاء عن الإمام الصادق (عليه السلام): «ما من معجزة من معجزات الأنبياء والأوصياء إلّا ويظهر الله تبارك وتعالى مثلها في يد قائمنا لإتمام الحجة على الأعداء»(١٥).
ولا يخفى أن هذا المعنى من التعريف بشخصية الإمام (عجَّل الله فرجه) للناس وكمقدمة للقيام بمشروعه والانتصار فيه هو متوقف على المعجزة الإلهية وتحققها، وإلّا كيف يصدق الناس أنه هو المهدي الموعود (عجَّل الله فرجه).
ولكن السؤال الذي يكثر طرحه والاستفسار عنه هو دور المعجزة وحجم وجودها وتأثيرها في معادلة انتصار الدولة المهدوية، وفي أغلب الأحيان يتجه هذا التساؤل بالتحديد حول المعارك والحروب التي يقودها الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) ضد أعدائه وخصومه، لكونها هي العقبة الكبرى في نشر العدل والقضاء على الظلم.
وللجواب عن ذلك نقول: إن كان المقصود من المعجزة هو معناها العام والذي يشمل عرفاً كل صور التأييد الغيبي والتسديد الإلهي، فهذا المعنى شرط واجب في نهضة الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه)، بل في كل حركة يتحركها الإنسان المؤمن وبدونه لا يستطيع أن يقوم بأي شيء، وقد سأل أحدهم الإمام الكاظم (عليه السلام) عن القدرة والقوة اللتين يمتلكهما الإنسان هل يستطيع بهما أن يؤدي تكاليفه وأعماله، فقال (عليه السلام): «قد أعطيت القوة إن أعطيت المعونة»، قال له الرجل: فما المعونة؟ قال: «التوفيق»؛ قال: فلِمَ إعطاء التوفيق؟ قال: «لو كنتَ موفقاً كنتَ عاملاً، وقد يكون الكافر أقوى منك ولا يُعطى التوفيق فلا يكون عاملاً»(١٦).
ونفهم من هذه الرواية وغيرها أن الإمام (عجَّل الله فرجه) لن يكون مستغنياً في نهضته ومشروعه عن هذا الدعم الإلهي والتوفيق.
غاية الأمر أن التوفيق الغيبي من الله تعالى له أسباب وعلل ومظاهر وصور، فيوسف (عليه السلام) لولا الرؤيا التي رآها ملك مصر ولولا الجدب والقحط الذي مرَّ على أهلها ولولا الإلهام الإلهي له بتعبير الرؤيا لما استطاع أن يكون عزيزاً لمصر، وهكذا بالنسبة للنبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فإنه لم يكن لينتصر في معاركه أو ينشر دينه اعتماداً فقط على جهاد المسلمين وقدراتهم الخاصة فقط، بل إن التأييد الإلهي كان حاضراً بوضوح وله التأثير الحاسم في تحقيق معادلة الانتصار، يقول تعالى: ﴿وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ ما فِي الأَرضِ جَمِيعاً ما أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلكِنَّ اللهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ (الأنفال: ٦٣).
وبنفس المستوى فإن الدعم الإلهي سيكون حاضراً وبقوة في الدولة المهدوية، ولولاه لا يكتب لها النجاح والانتصار، وتبدأ عجلة هذا التأييد في أول لحظة لظهور الإمام (عجَّل الله فرجه)، فقد ورد عن الإمام الجواد (عليه السلام): «إن الله تبارك وتعالى ليصلح له أمره في ليلة كما أصلح أمر كليمه موسى (عليه السلام)، إذ ذهب ليقتبس لأهله ناراً فرجع، وهو نبي مرسل»(١٧).
وكذلك نرى مظاهر هذا التأييد الغيبي في أنصاره وأصحابه، فقد روي عن الإمام الباقر (عليه السلام): «فإذا بلغوا إلى الخليج كتبوا على أقدامهم شيئاً ومشوا على الماء، فإذا نظر إليهم الروم يمشون على الماء، قالوا: هؤلاء أصحابه يمشون على الماء، فكيف هو؟ فعند ذلك يفتحون لهم باب المدينة فيدخلونها فيحكمون فيها بما يريدون»(١٨).
بل حتى استقرار الأوضاع والرفاهية الاقتصادية التي تتحدث عنها الروايات في الدولة المهدوية، فهي متوقفة على ذات المعنى، وإلّا فمن المعلوم أن انبساط الرزق وكثرة الأموال مدعاة لطغيان الإنسان وانحراف المجتمعات، يقول تعالى: ﴿وَلَوْ بَسَطَ اللهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا فِي الأَرضِ﴾ (الشورى: ٢٧)، ولكن كل ذلك إنما يمتنع ويتلاشى بإرادته تعالى وتأييده الخاص، فقد روي عن الإمام الباقر (عليه السلام): «ويوسع الله على شيعتنا، ولولا ما يدركهم من السعادة لبغوا»(١٩)، ولا نريد أن نطيل في ذكر مصاديق ومفردات هذا المعنى فإنها أكثر من أن تحصى.
ولكن الأمر الذي لابد من الإشارة إليه والتوقف عنده أن كل هذا التأييد والعون والتوفيق لا يتم بدون ملاكات وأسباب موضوعية، بل لابد قبل ذلك من ضرورة توفر مقدماتها وعللها ليفيض الله تعالى حينها نصره وتأييده على الناس، سواء أكانت تلك الأسباب في نفس شخصية الإمام (عجَّل الله فرجه) ومؤهلاته الخاصة أم من حيث استعداد الناس والمجتمع البشري، فإن الله تعالى كتب على نفسه ألّا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم، وهي سنة عامة لا تقبل الاستثناء، فالانتصار الذي حصل في معركة بدر إنما هو نصر من الله تعالى ولكنه متوقف أيضاً على أسباب لابد أن تتوفر في طبيعة نفس المسلمين قبل ذلك، فإذا فقدوا تلك الأسباب يُرفع عنهم النصر ويحرمون التأييد ليهزموا أو يفشلوا كما حصل ذلك في معركة أُحد.
ولو كان الأمر غير ملحوظ فيه الأسباب والشروط السابقة لما كان هناك حاجة لتأخير الدولة المهدوية كل هذا الزمن الطويل ولأقامها الله تعالى بالمعجزة والقهر من أول يوم وطأ الإنسان فيه الأرض.
ومن هنا نفهم أن هذه الغيبة الطويلة وترك البشرية لهذه الفترة المديدة ليس مجرد أمر اعتباطي أو عفوي، بل هو من ضمن حيثيات هذا الإعداد والتمهيد لبلورة قناعة اختيارية لدى الناس ترفع من شأن استعداداتهم وقابلياتهم ليكونوا بعد ذلك مستحقين وجديرين بالعطاء الإلهي والنعمة الإلهية.
وهنا قد يستشكل البعض ويقول: إن كان الأمر كذلك، فإن تحقق هذا الشرط في الناس من الصعوبة والتعقيد بمكان قد يجعله بحكم الممتنع والمستحيل، فمتى تبلغ المجتمعات الإنسانية والإنسان عموماً هذه المرحلة من الأهلية والاستعداد، والحال أنهم كلما مضى عليهم الزمن أكثر انحدروا في السقوط والفساد أكثر وأكثر؟!
والجواب عن ذلك: أن الدولة المهدوية غير متوقفة على صلاح المعاصرين والمتزامنين بالضرورة في عصر الظهور، بل هي مشروع إلهي وخطة سماوية يجري الإعداد لها منذ أول الخليقة وإلى آخر يوم، ولن تتوقف على من يكون في عصر الظهور بالخصوص حتى لو افترضنا انحراف جميع الناس حينذاك.
روي عن الإمام الباقر (عليه السلام): «وإن صاحب هذا الأمر محفوظ له، فلا تذهبن يميناً ولا شمالاً... ولو أن الناس كفروا جميعاً حتى لا يبقى أحد، لجاء الله لهذا الأمر بأهل يكونون من أهله»(٢٠)، فإن الله تعالى قدَّر وقضى أن يظهر هذا الدين على الدين كله ولو كره المشركون، وإنما ينتخب الله تعالى من المؤمنين سواء في الماضي أم الحاضر والمستقبل أولياء له وجنوداً ليقوموا بهذا المشروع وعلى أكتافهم وبجهادهم.
وكل مؤمن سواء في عصرنا الحالي أم قبله أم بعده إذا محض الصدق في إيمانه وعقيدته هو من ضمن ممهدات هذه الدولة ونجاحها، فإن أدركه الأجل والموت بعثه الله تعالى من قبره(٢١) لنصرة الإمام (عجَّل الله فرجه) وإنجاح دولته، وهذه هي من فلسفة الرجعة والحكمة منها، والتي ورد فيها مئات الأحاديث والروايات والتي تؤكد هذه الحقيقة، وهذا هو المعنى الصحيح للانتظار الذي يجب على المؤمنين أن يتحلوا به في مختلف الأزمنة فإنه لا معنى لأن تنتظر شيئاً أنت غير ملحوظ فيه أو مدعو إليه، ولذا وجدنا في الأحاديث أن وجوب الانتظار هو تكليف لجميع المسلمين حتى لمن كان في زمن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، فقد روي عنه (صلّى الله عليه وآله وسلّم): «أفضل أعمال أمتي انتظار الفرج من الله (عزَّ وجلَّ)»(٢٢)، وما ذلك إلّا لأن باب النصرة المهدوية ليس محبوساً أو مقتصراً على فئة أو مجموعة قد يتفق وجودها وتعاصرها مع ظهوره الشريف، ولذا نفهم أن التاريخ الإنساني بمجموعه العام هو مورد الانتخاب والاجتباء لهؤلاء الأنصار والقائمين بالدولة الإلهية على يد الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه).
جاء في الحديث القدسي: «فإنه يوم قضيت وحتمت أن أطهر الأرض ذلك اليوم من الكفر والشرك والمعاصي، وأنتخب لذلك الوقت عباداً لي امتحنت قلوبهم للإيمان»(٢٣).
وجاء في الحديث الصحيح عن الإمام الصادق (عليه السلام): «قال أما والله لا تذهب الأيام والليالي حتى يحيي الله الموتى ويميت الأحياء ويرد الله الحق إلى أهله ويقيم دينه الذي ارتضاه لنفسه ونبيه، فأبشروا ثم أبشروا ثم أبشروا فو الله ما الحق إلّا في أيديكم»(٢٤).
دور الأسباب والعوامل الطبيعة في الانتصار المهدوي:
بناء على ما تقدم في الفقرة السابقة سيكون واضحاً لدينا أهمية الأسباب والعوامل الطبيعية وكذلك الظروف الموضوعية وما لها من دخالة مباشرة في تحقيق الدولة المهدوية، وارتهان قيامها بأمرين لا غنى عنهما:
الأول: الدور البشري والإنساني.
الثاني: الدعم والتأييد الإلهي.
ولا يخفى أن الأمر الأول يمثل علّة معدّة وسبباً يتولد عنه الأمر الثاني ويرتبط به ارتباطاً عضوياً كنتيجة تترتب عليه، وبالتالي سوف يكتسب هذا التفريع أهمية كبرى في نظرتنا إلى مجمل العقيدة المهدوية وتفاصيلها وهو ما قد يخالف الرؤية السائدة في أذهان الكثيرين من الناس ممن انسجموا مع الأطروحة الغيبية المحضة التي ترتبط بظهور وانتصار الدولة المهدوية، لاسيما إذا وضعنا في الحسبان موازين القوى والنفوذ المادية في معادلة الانتصار تلك بالنسبة لليوم الموعود، على أن هذه الفكرة بحد ذاتها ليست هي من بنات أفكار هذا الجيل المعاصر أو الذي قبله، الذي استطاع فيه الإنسان أن يحقق الكثير من مصادر القوة والقدرة والتي يكاد أن يكون افتراض التغلب عليها والوقوف بوجهها ضرباً من الإعجاز واختراقاً لكل ما هو طبيعي ومتعارف، فقد كان يتداول بين بعض أصحاب الأئمة (عليهم السلام) أن انتصار الدولة المهدية لن يعدو أن يكون بالعوامل الغيبية وحسب من دون جهد ولا جهاد وإنما تستقيم الأمور للإمام (عجَّل الله فرجه) عفواً من غير مشقة ولا عسر وهو الأمر الذي نفاه الإمام الباقر (عليه السلام) تماماً، فقد روى النعماني في كتابه الغيبة: عن بشير النبال، لما قلت لأبي جعفر (عليه السلام): إنهم يقولون إن المهدي لو قام لاستقامت له الأمور عفواً ولا يهريق محجمة دم، فقال: «كلا والذي نفسي بيده، لو استقامت لأحد عفواً لاستقامت لرسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) حين أدميت رباعيته، وشج في وجهه، كلا والذي نفسي بيده، حتى نمسح نحن وأنتم العرق والعلق، ثم مسح جبهته»(٢٥).
وعلى كل حال يمكن أن نقول: إن القراءة السابقة تفترض في ملاحظاتها وأفكارها استصحاب الحالة المعاصرة بكل ما فيها من حيثيات ومقارنات، ثم سحبها إلى عصر الظهور ليبقى العنصر الإعجازي هو الوسيلة الوحيدة لتحقيق الوعد الإلهي في انتصار الدولة المهدوية، ولا ريب ولا مناص من هذا التفكير فيما لو بقيت الأمور على وضعها الحالي، والحال أن الروايات والأحاديث الشريفة التي بين أيدينا استشرفت ذلك المستقبل بنحو يحكي مصيراً مغايراً تماماً عما نشهده في زماننا الحالي، ولذلك كان المعطى الروائي عند الخاصة والعامة يتفق في رؤيته في حصول الكثير من المتغيرات والانقلابات في الأوضاع ومجريات الأحداث، ولذلك تبرز عندنا بجلاء ووضوح الصورة القاتمة التي تترسم فيها أنواع الفتن والمحن التي تنتظر البشرية وفي جميع مفاصل الحياة والمجتمع.
فقد جاء عن الإمام الباقر (عليه السلام): «لا يقوم القائم إلّا على خوف شديد من الناس، وزلازل، وفتنة وبلاء يصيب الناس، وطاعون قبل ذلك، وسيف قاطع بين العرب، واختلاف شديد بين الناس، وتشتيت في دينهم، وتغيير في حالهم، حتى يتمنى المتمني الموت صباحاً ومساءً من عِظَمِ ما يرى من كَلَبِ الناس وأكل بعضهم بعضاً»(٢٦).
وكذلك ما روي عن سليمان بن خالد، قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: «قدام القائم موتتان: موت أحمر وموت أبيض، حتى يذهب من كل سبعة خمسة، الموت الأحمر السيف، والموت الأبيض الطاعون»(٢٧).
وكذلك ما روي عنه (عليه السلام): «لابد أن يكون قدّام قيام القائم سنة يجوع فيها الناس، ويصيبهم خوف شديد من القتل، ونقص من الأموال والأنفس والثمرات، وإن ذلك في كتاب الله لبين»، ثم تلا هذه الآية: ﴿ولَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الخَوْفِ والجُوعِ ونَقْصٍ مِنَ الأَمْوالِ والأَنْفُسِ والثَّمَراتِ وبَشِّرِ الصَّابِرِينَ﴾ [البقرة: ١٥٥](٢٨).
على أن حصول كل تلك التقلبات والكوارث لا يعني بالضرورة أنها بتسبيب غيبي خارق تباشره السماء بإرادتها الابتدائية لكي تستهدف من خلاله إلجاء الناس إلى الرضا والاقتناع بالتغيير الذي يحصل على يد الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه)، وإنما يكفي أن تترك الأمور على حالها من غير عناية أو نظر لينحدر الإنسان إلى أسوأ مخاوفه كنتيجة سننية يجنيها لسلوكيات منحرفة تراكمت على مرِّ العصور حتى بلغت ذروتها في لحظة تاريخية تحقق عندها الإنسان من قصوره وعجزه عن معالجة تلك الأخطاء الفادحة والتي أوصلته إلى ما وصل إليه.
وهذا المآل الدقيق من الحصاد المر يمكن أن يستظهر في عدة آيات قرآنية وأحاديث شريفة:
يقول تعالى: ﴿وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾ (النحل: ١١٨).
ويقول تعالى: ﴿وَلا يَحِيقُ المَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ﴾ (فاطر: ٤٣).
وفي هذا السياق ذاته يمكن أن نفهم معنى ما ورد من لامبالاة السماء في أحداث آخر الزمان وما ينتج عنها من صراعات وحروب في كل أرجاء العالم، روي عن أمير المؤمنين (عليه السلام): «ليخربن العرب كما يخرب البيت الخرب، يصيرون ثللاً، يقتل بعضهم بعضاً، لا يبالي الله من غلب»(٢٩).
ولا شك أن التعبير بعدم المبالاة صياغة لفظية أخرى عن رفع يد العناية واللطف الإلهي عن البشرية وتركها وحدها لتحصد ما زرعته بسوء خياراتها السابقة.
وعلى ضوء ما تقدم، لن يكون من العسير استكشاف أهمية هذا الموضوع وما يتفرع عنه من لوازم ونتائج سوف تنتهي بنا إلى حقيقة مهمة تؤشر إلى فعالية الدور الإنساني ودخالة الظروف الموضوعية والسنن الطبيعية وتأثيرها في قيام الدولة المهدوية، على أن الفكرة السابقة التي ناقشناها سابقاً والتي تقصر عوامل الانتصار على الجانب الغيبي فقط تبقى تعاني عجزاً كبيراً عن تفسير الروايات والأحاديث التي تحدثت عن الشروط والعوامل التي تدخل في تهيئة الأرضية لقيام الدولة المهدوية، لا سيما فيما يرتبط بتوفر الأنصار والقاعدة الشعبية وكذلك إشكالية تأخر الظهور المبارك وعدم قيام أحد الأئمة (عليهم السلام) بالدور المهدوي مع توفرهم على كل المؤهلات والمقومات التي يتصفون بها.
اكتمال الحلقة:
إضافة للروايات التي استشهدنا بها والتي تؤيد ما ذهبنا إليه من كون مبدأ الإعجاز لن يكون هو العلة التامة للانتصار المهدوي، وإنما يكون حضوره تبعاً للعوامل والأسباب الطبيعية، تبقى تساؤلات يلزم عند طرحها الحاجة إلى الجواب والبيان، بل هي في حقيقتها أقرب إلى الإشكال منها إلى الاستفسار والاستيضاح، من قبيل شرطية وجود الأنصار والأتباع بلحاظ كونهم الجماعة التي ستسير تحت ركابه (عجَّل الله فرجه) في عصر الظهور، والذين سيناصرونه ويستعين بهم في عملية إرساء قواعد حكومة العدل الإلهي، وقد أحصتهم الروايات عدداً وفئات، فقد روي عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنّه قال: «إذا كمل له العقد وهو عشرة آلاف رجل خرج بإذن الله (عزَّ وجلَّ)». وفي رواية أخرى: «حتَّى يكون في مثل الحلقة». قال الراوي: وما الحلقةُ؟ قال: «عشرةُ آلاف رجل»(٣٠).
وعن أبي بصير، قال: سأل رجل من أهل الكوفة أبا عبد الله (عليه السلام): كم يخرج مع القائم (عليه السلام)، فإنهم يقولون إنّه يخرج معه مثل عدّة أهل بدر ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلاً؟ قال: «وما يخرج إلّا في أولي قوّة، وما تكون أولوا القوّة أقل من عشرة آلاف»(٣١).
بل يظهر من بعض الروايات أن عدد أصحاب الألوية والنخبة الخاصة من أصحابه (عجَّل الله فرجه) هو العدد المعروف والمعبر عنه بـ(٣١٣)، وكل واحد منهم يقود (٣٠٠) رجلاً، فقد روى يونس بن ظبيان: قال: كنت عند أبي عبد الله (عليه السلام)، فذكر أصحاب القائم (عليه السلام)، فقال (عليه السلام): «ثلاثمائة وثلاثة عشر، وكل واحد يرى نفسه في ثلاثمائة»(٣٢).
فيكون عددهم مع الذين معهم أكثر من تسعين ألفاً من المؤمنين، ولذلك قال الشيخ المجلسي (عجَّل الله فرجه) تعليقاً على الأخبار التي حددت أنصاره بالعدد (٣١٣) بقوله: (إنّ عدد أنصار المهدي عند ظهوره هو ثلاثمائة وثلاثة عشر رجل، وهذا لا ينافي أنّ جماعة آخرين سوف يلتحقون به بعد ظهوره)، بل ذلك ما يظهر واضحاً من بعض الأخبار التي حكت أن الله تعالى سوف يجمع له شيعته من جميع أنحاء العالم، فقد جاء عن الإمام الرضا (عليه السلام) في تأويل قوله تعالى: ﴿فَاسْتَبِقُوا الخَيْراتِ أَيْنَ ما تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللهُ جَمِيعاً﴾ (البقرة: ١٤٨) قوله (عليه السلام): «وذلك والله أن لو قد قام قائمنا يجمع الله إليه شيعتنا من جميع البلدان»(٣٣).
وعلى ضوء هذه الروايات والأخبار لا يمكن بأي حال أن نفهم ما تضمنته من ضرورة توفر الأنصار فيما لو كان البُعد الإعجازي هو العنصر الرئيس الذي يقف وراء تحقق الدولة المهدوية، إذ لو كان الأمر كذلك لم يكن هناك حاجة إلى هذه الأعداد، بل ولا الأقل منها، لبداهة أن حضور المعجزة وحدها يكفي لأن يكون ملاكاً وسبباً وحيداً للقضاء على كل مظاهر الظلم، ومصادر قوته كما حصل مع نبي الله موسى (عليه السلام) ومواجهته مع فرعون، والتي أدَّت إلى القضاء عليه وجنوده بضربة عصا واحدة، وعلى كل حال فالروايات متظافرة في كون توفر القاعدة المؤمنة والمخلصة والتي تمتلك الاستعداد التام للجهاد والتضحية ليس مجرد شرط ثانوي يدخل في المعادلة على نحو هامشي أو فرعي، بل هو أمر جوهري وضرورة محورية عبَّرت عنها بعض الروايات بأنها السبب في تأخر قيام الإمام (عجَّل الله فرجه) وتحمله المشاق والمحنة طيلة هذه الغيبة الطويلة، فقد روى النعماني في كتابه الغيبة عن الإمام الصادق (عليه السلام) في قوله لأصحابه: «إن الذي تطلبون وترجون إنما يخرج من مكة، وما يخرج من مكة حتى يرى الذي يحب، ولو صار أن يأكل الأغصان أغصان الشجر»(٣٤).
ولا يخفى أن التعبير الوارد في الرواية «ولو صار أن يأكل الأغصان» كناية عن تحمل الإمام (عجَّل الله فرجه) للمشاق والمعاناة في أيام غيبته حتى تتوفر جميع الشروط والأسباب التي تتيح له القيام بوظيفته التي أنيطت به.
طول أيام الغيبة:
هذه إشكالية أخرى تفرض نفسها وتبحث عن جواب يعسر الحصول عليه إن لم يكن ممتنعاً مع الافتراض الذي يذهب إلى محورية الإعجاز في انتصار الدولة المهدوية وقيامها في الأرض، فلا نختلف في كثرة الروايات التي تحدثت عن طول أيام الغيبة وامتداد زمانها، وهو الفهم الذي لم يكن يطرأ على بال أكثر الشيعة في العصور المتقدمة، بل ولا أكثر المتشائمين منهم، مع أن القارئ والمتتبع لروايات وأحاديث الأئمة المعصومين (عليهم السلام) يلحظ بوضوح محاولاتهم لتغيير هذا الفهم الناشئ والمتولد إمّا عن التصور الخاطئ في طبيعة مجرى السنن الإلهية أو طلباً للخلاص العاجل من الأوضاع التي كانوا يكابدونها ويتعرضون لها، ولأجل ذلك واظب الأئمة المتقدمون (عليهم السلام) على ترسيخ هذا المعنى والتأكيد على طول أيام الغيبة قبل أن يحين موعد الظهور، ومع ما تحمله هذه الفكرة بحد ذاتها من وعورةٍ قد يترتب عليها بعث حالة اليأس والإحباط في قلوب الشيعة آنذاك، فقد كان إيصال الرسالة إلى الأجيال القادمة هو الأولوية الأهم بالنسبة إليهم (عليهم السلام) خشية على تلك الأجيال أن يعرض لهم ما عرض على الأُمم السابقة بعد أن طال عليهم أمد الانتظار، فقد ورد عن الإمام الصادق (عليه السلام) في تفسير قوله تعالى: ﴿وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ مِنْ قَبْلُ فَطالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ﴾ (الحديد: ١٦)، أن المقصود بذلك هم أهل زمان الغيبة وأن الأمد إنما هو أمد الغيبة والذي يمتد بولي الله إلى ما شاء الله، بل ورد عن الإمام الجواد (عليه السلام) أن توصيف الإمام القائم بـ(المنتظر) لم يكن إلّا لطول أيام غيبته، فقد سأله الصقر ابن أبي دلف عن سبب تسميته بذلك، فقال: «لأن له غيبة يكثر أيامها ويطول أمدها، فينتظر خروجه المخلصون وينكره المرتابون ويستهزئ بذكره الجاحدون، ويكذب فيها الوقاتون، ويهلك فيها المستعجلون، وينجو فيها المسلمون»(٣٥).
وبطبيعة الحال لم تغفل الروايات عن ذكر أسباب الغيبة وعللها، فهي مستفيضة ومفصلة في موسوعات الأخبار، ونحن وإن لم نكن بصدد البحث عن ذلك ولكن ما يمكن رصده في هذه العجالة أن تلك الأسباب التي بيَّنتها الروايات لم تكن على جهة واحدة أو سبيل واحد، فهناك من الروايات التي تحدثت عن أصل سبب الغيبة كالخوف على الإمام (عجَّل الله فرجه) من ملاحقة الظالمين طلباً للقضاء عليه، وهناك ما تحدثت عن سبب طول الغيبة وامتداد أيامها.
وهما أمران مختلفان كما هو واضح، ولذلك يختلف التفسير والتعليل بين هذا وذاك، ومن هنا تكثرت البيانات عنهم (عليهم السلام) في منشأ وأصل الغيبة، ولا يصح أن توضع كل تلك البيانات التعليلية في سلة واحدة فنتوهم أنها جاءت لتتحدث عن جهة متحدة ووجه واحد، ففي الوقت الذي نرى الروايات تتحدث عن الخوف من القتل كسبب واقعي لغيبته (عجَّل الله فرجه)، نراها تتحدث ثانية عن سبب آخر لا يقترب من التعليل الأول كالذي نراه في تفسير الغيبة بسبب جريان سنن الأنبياء (عليهم السلام) فيه (عجَّل الله فرجه)، وضرورة استيفاء مُدَدْ غيباتهم، فقد روى سدير عن الإمام الصادق (عليه السلام): «إن للقائم منا غيبة يطول أمدها»، فقلت له: يا بن رسول الله، ولم ذلك؟ قال: «لأن الله (عزَّ وجلَّ) أبى إلّا أن تجري فيه سنن الأنبياء (عليهم السلام) في غيباتهم، وإنه لابد له يا سدير من استيفاء مُدَد غيباتهم، قال الله تعالى: ﴿لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ﴾ [الانشقاق: ١٩] أي سنن من كان قبلكم»(٣٦).
مع أن هذا التعليل الأخير هو أقرب للجواب النقضي منه إلى الجواب الحاسم الذي يحل لغز الغيبة بتمامه، فإن السؤال يعود ثانية ومن نافذة أخرى ليتجه نحو سبب غيبات نفس الأنبياء عن أُممهم والعلة في ذلك، والذي يمكن رصده واستشرافه من مجمل الأحاديث أن تأخير الظهور وطول غيبته (عجَّل الله فرجه) إنما هو من مظاهر الحكمة الإلهية وتجلياتها، وقد ورد هذا المعنى واضحاً في رواية عبد الله بن الفضل الهاشمي عن الإمام الصادق (عليه السلام) في قوله: «إن لصاحب هذا الأمر غيبة لابد منها، يرتاب فيها كل مبطل»، فقلت: ولم جعلت فداك؟ قال: «لأمر لم يؤذن لنا في كشفه لكم»؟ قلت: فما وجه الحكمة في غيبته؟ قال: «وجه الحكمة في غيبته وجه الحكمة في غيبات من تقدمه من حجج الله تعالى ذكره، إن وجه الحكمة في ذلك لا ينكشف إلّا بعد ظهوره كما لم ينكشف وجه الحكمة فيما أتاه الخضر (عليه السلام) من خرق السفينة، وقتل الغلام، وإقامة الجدار لموسى (عليه السلام) إلى وقت افتراقهما، يا بن الفضل: إن هذا الأمر أمر من (أمر) الله تعالى، وسرٌّ من سرِّ الله، وغيبٌ من غيبِ الله، ومتى علمنا أنه (عزَّ وجلَّ) حكيم، صدقنا بأن أفعاله كلها حكمة، وإن كان وجهها غير منكشف»(٣٧).
ولا يخفى أن صفة الحكمة إنما هي من صفات الله (عزَّ وجلَّ) في مقام الفعل والصنع والتي تحكي عن إتقان التدبير في العباد وحسن التقدير لهم، وإذا كان الأمر كذلك فلا يمكن أن نغض الطرف عن الواقع الإنساني أو نشطب دخالة الظروف الموضوعية التي تحيط بهم في معادلة ظهور الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه)، لأننا لا نتكلم في الصفات الذاتية التي تحكي عن الذات المقدسة والتي لا يتوقف الاتصاف بها على وجود الخلق أو عدم وجودهم، وإنما الكلام في صفة فعلية يستلزم الاتِّصاف بها وجود طرف آخر غير الخالق تعالى، حتى يصح وصف التعامل معهم بوصف الحكمة وحسن التدبير، وبناء على ذلك فلا مناص من الأخذ بنظر الاعتبار طبيعة الأشياء وقابليات الناس واستعدادهم في تنزل الفيوض الإلهية عليهم، فكيف ونحن نتكلم عن أعظم مشروع يُراد تحقيقه للبشرية للبلوغ بهم إلى أسمى معاني الكمال والتكامل، والذي لم يكن له مثيلٌ على الأرض منذ نشوئها، وهو الأمر الذي يحتاج في واقعه إلى الأرضية والقاعدة التي تمتلك القابلية على ذلك بعيداً عن القسر والقهر الذي ينشأ عن فرض الأمر الواقع بالإعجاز أو التكوين، بل لابد من ساعة سوف يُشكل الوصول إليها انعطافة تتيح النجاح لقيام الدولة المهدوية، وهذا ما نستشفه من حديث الإمام الصادق (عليه السلام): «إنما هلك الناس من استعجالهم لهذا الأمر، إن الله لا يعجل لعجلة العباد، إن لهذا الأمر غاية ينتهى إليها، فلو قد بلغوها لم يستقدموا ساعة ولم يستأخروا»(٣٨).
وتلك الساعة (ولا يمكن فهمها بطبيعة الحال كمرحلة زمنية طارئة) هي التي تشكل الضمان الأتم لنجاح قيام الدولة المهدوية.

الهوامش:

(١) الكافي للشيخ الكليني: ج١، ص١٦٠.
(٢) كمال الدين للشيخ الصدوق:٢٨٠.
(٣) غيبة للشيخ النعماني: ٣١:٥.
(٤) كمال الدين للشيخ الصدوق: ٣٧٨.
(٥) الغيبة للشيخ النعماني: ٢٤٠.
(٦) تفسير العياشي: ج٢، ص١٥٤.
(٧) غيبة للشيخ النعماني: ص١٧١.
(٨) كمال الدين للشيخ الصدوق: ص٤٨٥.
(٩) سنن أبي داود: ج٢، ص٣١٠.
(١٠) كمال الدين للشيخ الصدوق: ٣٥١.
(١١) علل الشرائع للشيخ الصدوق: ١/ ٢٤٦.
(١٢) كمال الدين للشيخ الصدوق: ص٣٨٥.
(١٣) بحار الأنوار للشيخ المجلسي: ج٥٣، ص٢٦.
(١٤) علل الشرائع للشيخ الصدوق: ١ / ١٢٢.
(١٥) إثبات الهداة للحر العاملي: ٣ / ٧٠٠.
(١٦) فقه الإمام الرضا (عليه السلام): ص٣٥١.
(١٧) كمال الدين للشيخ الصدوق: ٣٧٧.
(١٨) غيبة للشيخ النعماني: ٣٣٤.
(١٩) تفسير العياشي: ج٢، ص٦١.
(٢٠) بصائر الدرجات: ١٩٤.
(٢١) عن المفضل بن عمر، قال: ذكرنا القائم (عليه السلام) ومن مات من أصحابنا ينتظره، فقال لنا أبو عبد الله (عليه السلام): «إذا قام أتى المؤمن في قبره فيقال له: يا هذا، إنه قد ظهر صاحبك، فإن تشأ أن تلحق به فالحق، وإن تشأ أن تقيم في كرامة ربك فأقم» [الغيبة للشيخ الطوسي: ص٤٥٩، ح٤٧٠].
(٢٢) كمال الدين للشيخ الصدوق: ص٦٤٤.
(٢٣) سعد السعود لابن طاووس: ص٣٤.
(٢٤) الكافي للشيخ الكليني: ج٣، ص٥٣٨.
(٢٥) الغيبة للشيخ النعماني: ٢٩٤.
(٢٦) الغيبة للشيخ النعماني: ٢٤٠.
(٢٧) كمال الدين للشيخ الصدوق: ص٦٥٥.
(٢٨) الغيبة للشيخ النعماني: ص٢٥٩.
(٢٩) منتخب الأثر: ج١، ص٥.
(٣٠) كمال الدين للشيخ الصدوق: ٣٧٨.
(٣١) كمال الدين للشيخ الصدوق: ٦٥٤.
(٣٢) دلائل الإمامة - الطبري (الشيعي): ص٥٧٥.
(٣٣) تفسير العياشي: ١ / ٦٦.
(٣٤) الغيبة للشيخ النعماني: ١٨٥.
(٣٥) كمال الدين للشيخ الصدوق: ص٣٧٨.
(٣٦) كمال الدين للشيخ الصدوق: ص٤٨١.
(٣٧) كمال الدين للشيخ الصدوق: ٤٨٢.
(٣٨) الغيبة للشيخ النعماني: ٣٠٦.

التقييم التقييم:
  ٠ / ٠.٠
 التعليقات
لا توجد تعليقات

الإسم: *
الدولة:
البريد الإلكتروني:
النص: *

Copyright© 2004-2013 M-mahdi.com All Rights Reserved