الصفحة الرئيسية » البحوث والمقالات المهدوية » (٧٣٣) المختصر من إقامة الحُجّة على من أنكر ولادة الحُجّة (عجَّل الله فرجه)
 البحوث والمقالات المهدوية

المقالات (٧٣٣) المختصر من إقامة الحُجّة على من أنكر ولادة الحُجّة (عجَّل الله فرجه)

القسم القسم: البحوث والمقالات المهدوية الشخص الكاتب: الشيخ جاسم الوائلي تاريخ الإضافة تاريخ الإضافة: ٢٠٢١/٠٥/٢٥ المشاهدات المشاهدات: ٤٩٨٩ التعليقات التعليقات: ٠

المختصر من إقامة الحُجّة على من أنكر ولادة الحُجّة (عجَّل الله فرجه)

الشيخ جاسم الوائلي

إن تَوَلُّد الإمام المهديِّ (عجَّل الله فرجه) من الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) في أواسط القرن الثالث الهجري - سنة ٢٥٥ تقريباً - أمر مقطوع به، لتواتر الأخبار بذلك إجمالاً.
ورغم ذلك فقد أنكره بعض من ينسب نفسه إلى أهل العلم، ممّن يجهل أبجديات علم الأسانيد، مدَّعياً ضعف الروايات الدالَّة على ولادته (عجَّل الله فرجه).
وفي مقام الجواب لابدَّ من التمهيد ببيان معنى التواتر وأقسامه، وبيان أنّ ولادة الحجة (عجَّل الله فرجه) من أي الأقسام هي، ثم نشرع في إثبات ذلك من خلال الإشارة إلى الروايات الكثيرة الدالَّة على ولادته (عجَّل الله فرجه) بالمطابقة أو الالتزام، والمدعومة بإجماع الطائفة على ذلك، مضافاً إلى الأخبار الواردة فيمن رآه (عجَّل الله فرجه) في زمَنَيْ الغيبة الصغرى والكبرى، مع الإشارة إلى كلام بعض أعلام العامَّة ممن اعترف بتولُّده (عجَّل الله فرجه) من الإمام العسكري (عليه السلام)، كلُّ ذلك بنحو الإشارة، حيث اختصرناه من كتابنا الموسوم بـ(إقامة الحُجَّة على من أنكر ولادة الحُجَّة) بنحوٍ من التصرف، سائلاً من العلي القدير أن يعجِّل في فرجه، ويجعلنا من شيعته وأنصاره، إنَّه سميع مجيب.
معنى التواتر:
يمكن بيان المقصود من التواتر بلغةٍ مبسَّطة بعيداً عن لغة الاختصاص، فنقول:
لو أَخبَرَنا مُخبرٌ بوقوع حادثةٍ ما فإن كان ثقةً أخذنا بخبره، إلّا إذا كان هناك شاهد على خلافه، فنردُّه.
فإن لم يكن ثقةً أو كان مجهول الحال توقَّفنا في الأخذ بخبره، إلّا إذا كان هناك شاهد على صدقه.
هذا حالنا مع المخبر لو كان واحداً.
وأمَّا لو كان متعدِّداً فربما يحصل من مجموع إخباراتهم يقينٌ بصدق ما أخبروا به، كما لو بلغ عددُهم عشرين مخبراً، وعلمنا أنه لا علاقة تربط بينهم، بحيث نطمئن بأنَّهم لم يتَّفقوا فيما بينهم على الكذب، فآنذاك يكون الخبر قطعياً، ويعبَّر عنه بالمتواتر.
مثاله: ما لو أخبرني جاري بقدوم صديقي من السفر، ثمَّ أخبرني به موظف في المطار، ثم أخبرني سائق تكسيٍّ بأنه جاء به من المطار إلى منزله، ثم أخبرني صديق آخر بقدومه، ثم أخبرتني زوجتي أنَّها رأته في بيتهم يوم قامت بزيارة زوجته، ثم أخبرني جاره أنَّه رآه يدخل منزله في ذلك اليوم، وهكذا حتى بلغ عدد المخبرين عشرة أو أكثر من ذلك.
فلو أنَّ هؤلاء المخبرين لم تكن بينهم علاقة، فمن المستبعد جدًّا أن يكونوا قد اتَّفقوا على أن يكذبوا عليَّ، وكلُّ عاقل يحصل له القطع بهكذا خبر متعدِّد المصادر.
ومن هذا القبيل الأحداث التي تنقلها وسائل الإعلام المتعدِّدة، والمختلفة فيما بينها في توجُّهاتها، لاسيما العقدية، والسياسية.
وعلى ما ذكرنا فالخبر ينقسم إلى قسمين:
١ - متواتر، وهو الذي ينقله جماعة يحصل من إخبارهم القطع بصدقه.
٢ - غير متواتر، كخبر شخصٍ أو شخصين أو ثلاثة مثلاً، فإنَّ خبر الواحد والاثنين والثلاثة لا يفيد التواتر والقطع حتى لو كانوا من الثقات، فإن الثقة وإن لم نحتمل فيه الكذب إلّا أن احتمال الاشتباه في نقله أمرٌ وارد، فيسلب من الخبر صفة القطع، وأقصى ما يحصل منه هو الظنُّ ليس أكثر.
ويصطلح العلماء على هذا القسم (خبر الآحاد).
أقسام التواتر:
ينقسم التواتر إلى ثلاثة أقسام:
القسم الأوَّل: التواتر اللفظي:
وهو نقل الرواة للحديث بلفظ واحدٍ، كما لو روى عشرةٌ من الصحابة حديثاً عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بلفظ واحد إلى أحد التابعين، فإن التابعيَّ الذي يتلقَّى هكذا حديث يتلقَّاه متواتراً عن النبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، فيفيده القطع بصدوره.
وقد ذكر الأعلام شرطاً في حصول التواتر، وهو العلم باستحالة اتفاق الناقلين على الكذب، كما لو كان عددهم كثيراً، وكانوا متفرِّقين في مواطن سكناهم، أو في مذاهبهم، أو كان في جملتهم من نقطع بعدم تعمُّده الكذب على المعصوم، كالمقداد، وأبي ذرٍّ، وسلمان ݑ.
وإذا نقل الحديث بعدّة وسائط فلابد أن يكون التواتر حاصلاً في كلِّ واسطة منها وصولاً إلى المعصوم (عليه السلام).
القسم الثاني: التواتر المعنوي:
وهو نقل الرُّواة لحديثٍ واحدٍ بألفاظ مختلفة، والمعنى واحد، كحديث الغدير، وحديث الثقلين، وغيرهما من الأحاديث التي تتَّفق في المضمون، وتختلف في الألفاظ.
ومن أمثلته ما لو نقل عدد كبير من وسائل الإعلام خبراً بألفاظ مختلفة ومضمون واحد، فإنه يحصل للمتلقِّي القطع بصدق ذلك الخبر، وما ذلك إلَّا لقطعه باستحالة أن تكون تلك الوسائل قد اتَّفقت على الكذب، كما لو نقلت فضائيَّتان دينيَّتان خبراً في صالح المسلمين، ثمَّ نقلت ثلاث فضائيّات علمانيّة غير معادية للدّين نفس مضمون الخبر، ثمَّ نقلته أربع فضائيّات معادية للمسلمين، فإن كلَّ عاقل يحصل له القطع بصدق ذلك الخبر، لاستحالة حصول اتفاق بين جميع هذه الفضائيات على الكذب في هكذا خبر بالرغم من تباينها الشديد في التوجُّهات.
القسم الثالث: التواتر الإجمالي:
وهو نقل الرُّواة أخباراً مختلفة في اللفظ والمعنى، لكنها تشترك في معنى ملازمٍ لمعانيها، بحيث يحصل من مجموعها القطع بثبوت ذلك المعنى الملازم نتيجةً لتشكُّل علمٍ إجماليٍّ بثبوت ولو حديث واحد من تلك الأحاديث، فيما لو استحال كذب جميعها بحسب العادة.
مثاله: ما لو نقلت مختلف مصادر المسلمين من الشيعة والعامَّة عدداً كبيراً من الأخبار تشترك في لازم واحدٍ، كشجاعة عليِّ (عليه السلام)، فإنَّ كلَّ عاقل سوف يقطع بثبوت ذلك اللازم لعلي (عليه السلام)، وهو الشجاعة.
فلو نقل راويان أنَّ عليّاً (عليه السلام) قتل في معركة بدرٍ خمسةً وسبعين من قريش، ونقل ثلاثةٌ أنَّه قتل ستين في تلك المعركة، ونقل واحد أنَّ المقتولين خمسون، ونقل أربعة أنَّه قتل أربعين، فإنَّ هذه الأخبار العشرة وإن اختلفت في عدد مَن قتلهم إلَّا أنَّها اتَّفقت على أنَّه (عليه السلام) قتل ما لا يقلُّ عن أربعين من قريشٍ.
ومن المسلَّم به أن قتل مثل هذا العدد في معركة مثل معركة بدرٍ التي فاق فيها العدو جيش المسلمين عدداً وعدَّةً يدلُّ على شجاعة القاتل بلا شك.
ولو انضمَّ إلى هذه الأخبار العشرة أخبار أخرى تتحدَّث عن معارك أخرى، وأنه (عليه السلام) قتل في كلِّ واحدة منها أعداداً كبيرةً من الأبطال وكان أقلُّ عدد بينها كافياً لاستحقاقه (عليه السلام) وصف الشجاع، فسوف يحصل القطع لكلّ عاقل بشجاعته (عليه السلام).
ومنشأ القطع هو تواتر الأخبار في شجاعته تواتراً إجمالياً، لا لفظيّاً، ولا معنوياً، بمعنى حصول القطع للعاقل بصدق بعض هذه الأخبار، لاستحالة أن تكون جميعها كاذبة، ولو ثبت في مرَّة أو مرَّتين أن عليّاً (عليه السلام) قتل عدداً كبيراً من الأبطال فإنه كافٍ في ثبوت شجاعته وبطولته.
ولك أن تمثِّل لذلك بمثال معاصرٍ، وهو ما لو نقلت أخبار كثيرة عن قيام طبيبٍ جرَّاحٍ بزراعة الكلية بنجاح تام، لكنَّها اختلفت في عدد المرضى الذين أجرى لهم تلك العمليَّة، كما لو أفاد بعضها أنَّ عددها مائة عمليَّة، وبعضها أنَّها ثمانون، وبعضها أنَّها خمسون، فإنَّ القدر المشترك بين هذه الأخبار هو الخمسون، وهو عدد كبير بلحاظ هكذا نوع من العمليّات ويكفي كشاهدٍ على براعة ذلك الجرَّاح، ولذا نرى المرضى يطمئنون إلى مثله، ويسلِّمون أنفسهم ويستسلمون تحت يده، ثقةً منهم به، وما ذلك إلّا لحصول القطع واليقين ببراعته من خلال تواتر الأخبار بذلك عندهم تواتراً إجمالياً، رغم عدم إحرازهم لوثاقة جميع المخبرين.
والأمثلة على ذلك كثيرة جدّاً لا يمكن إحصاؤها.
ومن هذا القبيل ما تواتر من احتياج الصحابة إلى عليٍّ (عليه السلام) في الأحكام والقضاء، واستغنائه عنهم، بقطع النظر عمَّا هو الثابت من تلك الروايات المتضمّنة لهذه الحقيقة، وما هو غير الثابت منها، لأن القطع حاصلٌ بأنَّ بعضها على الأقل صادق وإن لم نشخّصه بعينه، كالتي وردت على لسان عمر وقوله: (لا أبقاني الله لمعضلة ليس لها أبو الحسن)، وقوله: (لولا عليٌّ لهلك عمر).
والروايات في كلا المثالين - شجاعة علي (عليه السلام) وعلمه - هي من قبيل الروايات المشترِكة في لازمٍ واحدٍ، وهو الشجاعة في المثال الأول، والعلم في المثال الثاني.
وجميع أقسام التواتر تتفق في أمرين:
١ - إنه لا حاجة إلى النظر في حال الرواة من جهة الوثاقة وعدمها مادام يستحيل عليهم التواطؤ على الكذب.
٢ - إنها تفيد القطع بالمضمون، سواء كان مباشريًّا كما في القسمين الأوَّلين أم كان ملازماً لمضمون الأخبار كما في القسم الثالث.
وإن تسأل: في حال لم تكن الروايات متواترة بأيِّ نحوٍ من أنحاء التواتر هل يمكن تحصيل القطع منها؟
فالجواب: أنَّ الرواية إذا لم تكن متواترة فقد ذكرنا أنّ العلماء يصطلحون عليها بأنَّها خبر آحاد، وهو على نحوين:
الأول: ما كان خالياً من قرينة تفيد القطع بصدقه.
وهذا لا يفيد أكثر من الظن كما هو المعروف(١)، فإن كان راويه ثقةً كان حجَّة في باب الفقه، لأجل قيام الدليل على حجية خبر الثقة في باب الأحكام الفرعية.
وإن لم يكن ثقةً بأن كان ضعيفاً أو مجهول الحال فلا يكون حجَّة في نفسه، ولكن ربما يستفاد منه في جهة أخرى ليس الآن محلُّ بيانها.
الثاني: ما قامت قرينة قطعية على صدقه.
وهذا كالمتواتر من جهة أنَّه يفيد القطع بالمضمون بسبب القرينة القطعيَّة.
مثاله: ما لو كنت ترى رجلاً كبيراً في السنّ يجلس في مقهى كلَّ يوم، وفي يوم أخبرك شخص بموته، فإن خبره لا يفيد القطع، لأنَّه إن لم يكن ثقةً فسوف تحتمل كذبه، وإن كان ثقةً فاحتمال اشتباهه واردٌ، لكنك لاحظت أن زوجة ذلك الرجل لم تعد تخرج من بيتها، ثم نقلت زوجتك أنَّها رأتها تلبس السواد، ثم رأيت بنفسك أبناءه وأصدقاءه يلبسون السواد، كما لم تعد تراه يجلس في ذلك المقهى كعادته، ثم سمعت من بعض الموظّفين أنَّ مرتّبه التقاعدي قد تمَّ تحويله باسم زوجته.
إن كلَّ قرينة من هذه القرائن لو ضممناها وحدها إلى الخبر لم تفد القطع.
أمّا عدم خروج الزوجة من بيتها فلعلَّ ذلك بسبب وعكة صحيّة.
وأمّا لبسها السواد فلعلَّه لموت بعض أقربائها.
وأمّا لبس أبنائه السواد فلعلّه لموت ذلك القريب.
وأمّا لبس أصدقائه السواد فلعلَّه لموت شخص آخر صادف موته مع موت أقرباء الزوجة.
وأمّا عدم جلوسه في المقهى فلعلّه لمرض منعه من الخروج.
وأمّا تحويل مرتَّبه باسم زوجته فلعلَّه لضعفه وأنَّه ما عاد يستطيع الذهاب لقبض المرتَّب بنفسه، فجعل زوجته وكيلةً في قبضه.
هذا لو لاحظنا كلَّ قرينة وحدها.
وأمّا لو لاحظنا القرائن مجتمعةً فإنَّ اجتماعها يورث الاطمئنان بموت ذلك الرجل المسنِّ.
إذا عرفت ما ذكرنا فنقول:
لقد أشكل أحد الجهلة المنتسب زوراً إلى أهل العلم: بأن وجود الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) مسألة عقديّة، ويلزم في المسائل العقدية أن تكون قطعيّة، والروايات الدالة على ولادته (عجَّل الله فرجه) لا تفيد القطع، لعدم تواترها.
وقد غفل هذا الغريب عن العلم وأهله عن جملة أمور:
منها: أنَّ التواتر لا ينحصر بالقسمين الأوَّلين، أعني اللفظي والمعنوي، بل هناك قسم ثالث، وهو التواتر الإجمالي كما عرفت.
ومنها: أنَّ المسائل العقديَّة وإن كان يُشترط فيها أن تكون قطعيّة إلّا أنَّه لا يلزم في القطع أن يكون بحيث يصل إليه المكلَّف من دون بحث في الأدلة والنصوص، وإلّا فعليه أن ينكر إمامة عليّ (عليه السلام)، لأن الخصم يدَّعي أن النصوص التي يسلّمون بها ليست صريحة في إمامته، وما كان منها صريحاً لا يسلّمون بها.
وبكلمة أخرى: أنَّ ما يلزم في المسألة العقديَّة هو أن تكون قطعية، وأمّا من أين يحصل القطع فتلك قضيةٌ أخرى، سواء حصل القطع من آيةٍ محكمةٍ، أو خبرٍ متواترٍ، أو خبرِ آحادٍ منضمٍّ إليه قرينةٌ قطعيّةٌ، أو من مجموع أخبار وقرائن توجب بملاحظة مجموعها القطع بولادته (عجَّل الله فرجه)، وهذا مما يغفل عنه كثير من الناس.
ومن هذا القبيل مسألة الرجعة، فإن القطع بها ليس أمراً بمتناول اليد بحيث يمكن لكلِّ مسلم أن يقطع بها من ملاحظة آيةٍ، أو روايةٍ، بل لابدَّ من إعمال النظر وضمِّ النصوص بعضها إلى بعضٍ، ثم بعد ذلك يحصل له القطع بها.
ومنها: أن تولُّد الإمام المهديِّ (عجَّل الله فرجه) من الحسن العسكريِّ (عليه السلام) مباشرة هو من المسائل الثابتة بالتواتر الإجمالي، لأن إثبات ولادته (عجَّل الله فرجه) لا ينحصر بالروايات الناقلة لحادثة الولادة كما يتوهَّم العوامُّ وأمثالهم من الذين يحسبون أنَّهم من أهل العلم، بل هناك مناشئُ أخرى لإثبات ولادته، وعلى رأسها الروايات الكثيرة التي يشترك جميعها في لازم واحد، وهو أنّ الحجة (عجَّل الله فرجه) هو ابن الحسن العسكري (عجَّل الله فرجه)، والمولود قبل وفاته، أي قبل سنة (٢٦٠هـ)، ولكثرتها يحصل العلم الإجمالي بصدور بعضها، فيحصل القطع بلازمها، وهو تولُّده (عجَّل الله فرجه)، لاسيما مع ضمِّ إجماع الطائفة على ذلك بحيث يوجب خروج منكره عن المذهب، وضمِّ الأخبار الناقلة لحصول التشرُّف بلقائه (عجَّل الله فرجه) من قبل بعض العلماء والصالحين، مضافاً إلى اعتراف بعض أعلام العامة بتولُّده (عجَّل الله فرجه).
ولهذا وذاك جعلنا البحث تارة في الروايات الدالة على ولادته ولو بالالتزام، وأخرى في الأخبار الواردة فيمن رآه (عجَّل الله فرجه)، وثالثة في شهادات العامَّة بها.
أمّا الروايات الدالة على ولادة الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) فمنها ما دلَّ عليها بالمطابقة، وهي ثلاثة أصناف، ومنها ما دلَّ عليها بالالتزام(٢)، وما عثرنا عليه منها على عجالة سبعة عشر صنفاً، فهاهنا عشرون صنفاً، وحيث إنَّ البحث هنا مبنيٌّ على الاختصار فنكتفي بنقل رواية واحدة لكلِّ صنف منها كأنموذج عن بقيَّة روايات الصنف:
الصنف الأول: الروايات المبشِّرة بولادته (عجَّل الله فرجه) قبل وقوعها:
من قبيل: ما رواه الكليني بسنده عن زرارة بن أعين، قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): «لابُدَّ للغلام من غيبة»، قلت: ولمً؟ قال: «يخاف - وأومأ بيده إلى بطنه - وهو المنتظر، وهو الذي يشك الناس في ولادته، فمنهم من يقول: حملٌ، ومنهم من يقول: مات أبوه ولم يُخلِّف، ومنهم من يقول: وُلد قبل موت أبيه بسنتين»، قال زرارة: فقلت: وما تأمرني لو أدركت ذلك الزمان؟ قال: «ادع الله بهذا الدعاء: اللَّهم عرِّفني نفسك، فإنَّك إن لم تعرِّفني نفسك لم أعرفكَ، اللَّهم عرِّفني نبيَّك، فإنَّك إن لم تعرِّفني نبيَّك لم أعرفْهُ قطُّ، اللَّهم عرَّفني حُجَّتك، فإنَّك إن لم تعرِّفني حُجَّتك ضللتُ عن ديني»، قال أحمد بن الهلال: سمعت هذا الحديث منذ ستٍ وخمسين سنة(٣).
أقول: والحديث واضح في أنَّ الصادق (عليه السلام) كان يحدِّث زرارة بأنَّ المهدي (عجَّل الله فرجه) سوف يولد، فإنَّ غيبة الشيء لا تصدق إلا بعد وجوده، فالذي لم يولد بعدُ لا يقال في حقِّه: «قد غاب فلان».
كما أنَّ الحديث واضح في أنَّ الناس سوف يشكُّون في ولادته، وأنَّ الشَّاكين في ذلك هم من الضالّين، وأنَّ عدم وجود إمامٍ بعد وفاة العسكريِّ (عليه السلام) يستلزم عدم معرفة من هو الحُجَّةُ بعده، ولازم عدم معرفة الحُجَّة هو الضلال عن الدين كما هو صريح قوله (عليه السلام): في آخر الدعاء: «فإنَّك إن لم تعرِّفني حُجَّتك ضللتُ عن ديني».
الصنف الثاني: الروايات الناقلة لحادثة الولادة:
من قبيل: ما رواه الصدوق بسنده عن موسى بن محمد بن القاسم، وهي رواية طويلة نكتفي بموضع الحاجة منها، قال: حدَّثتني حكيمة بنت محمد بن علي بن موسى بن جعفر (عليهم السلام)، قالت: بعث إليَّ أبو محمد الحسن بن علي (عليهما السلام) فقال: «يا عمة؛ اجعلي إفطارك [هذه] الليلة عندنا، فإنَّها ليلة النصف من شعبان، فإنَّ الله تبارك وتعالى سيظهر في هذه الليلة الحجة، وهو حجته في أرضه»، قالت: فقلت له: ومن أُمُّه؟ قال لي: «نرجس»، قلت له: جعلني الله فداك؛ ما بها أثر، فقال: «هو ما أقول لك»... إلى أن قالت: وخرجتُ أتفقَّد الفجر، فإذا أنا بالفجر الأول كَذَنَبِ السرحان وهي نائمة، فدخلني الشكوك، فصاح بي أبو محمد (عليه السلام) من المجلس فقال: «لا تعجلي يا عمة، فهاك الأمرُ قد قرب»... إلى أن قالت: فأخذتني فترةٌ وأَخَذَتها فترةٌ، فانتبهتُ بحِسِّ سيدي، فكشفتُ الثوبَ عنه، فإذا أنا به (عليه السلام) ساجداً يتلقَّى الأرض بمساجده، فضممته إليَّ، فإذا أنا به نظيفٌ متنظِّفٌ، فصاح بي أبو محمد (عليه السلام): «هَلُمِّي إليَّ ابني يا عمة»، فجئت به إليه، فوضع يديه تحت أَلْيَتَيهِ وظهره، ووضع قدميه على صدره، ثم أدلى لسانه في فيه، وأَمَرَّ يده على عينيه، وسمعه، ومفاصله... إلى آخر الراوية(٤).
الصنف الثالث: الروايات المتعلِّقة بولادته بعد وقوعها:
من قبيل: ما رواه الكليني بسنده عن أحمد بن محمد بن عبد الله، قال: خرج عن أبي محمد (عليه السلام) حين قُتل الزُّبيرِيُّ (لعنه الله): «هذا جزاءُ من اجتَرَأَ على الله في أوليائه، يزعم أنَّه يقتلني وليس لي عَقِبٌ، فكيف رأى قدرة الله فيه»؟، ووُلِدَ له وَلَدٌ سمَّاه...(٥) في سنة ستٍ وخمسين ومائتين(٦).
الصنف الرابع: الروايات الصريحة في أنَّ الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) هو التاسع من ولد الإمام الحسين (عليه السلام):
منها ما رواه الصدوق (رحمه الله) بسنده عن عبد الرحمن بن سليط، قال: قال الحسين بن علي بن أبي طالب (عليهما السلام): «مِنَّا اثنا عشر مهديّاً، أوَّلُهم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام)، وآخرهم التاسع من ولدي، وهو القائم بالحقِّ، يحيى الله تعالى به الأرض بعد موتها، ويظهر به دين الحقِّ على الدين كلِّه ولو كره المشركون، له غيبةٌ يرتدُّ فيها قومٌ، ويثبت على الدين فيها آخرون فيُؤذَونَ، فيقال لهم: ﴿مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ﴾، أما أن الصابر في غيبته على الأذى والتكذيب، بمنزلة المجاهد بالسيف بين يدي رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)»(٧).
الصنف الخامس: الروايات الصريحة في أنه السادس من ولد الإمام الصادق (عليه السلام):
ومنها ما رواه الصدوق (رحمه الله) بسنده عن حيان السرَّاج، قال: سمعت السيد بن محمد الحميري يقول: كنت أقول بالغلوِّ، وأعتقد غيبة محمد بن علي - ابن الحنفية - قد ضللت في ذلك زماناً، فمَنَّ الله عليَّ بالصادق جعفر بن محمد (عليهما السلام)، وأنقذني به من النار، وهداني إلى سواء الصراط، فسألته بعد ما صحَّ عندي بالدلائل التي شاهدتها منه أنَّه حجة الله عليَّ وعلى جميع أهل زمانه، وأنّه الإمام الذي فرض الله طاعته وأوجب الاقتداء به، فقلت له: يا بن رسول الله، قد روي لنا أخبارٌ عن آبائك (عليهم السلام) في الغيبة وصِحَّةِ كونها، فأخبرني بمن تقع؟ فقال (عليه السلام): «إن الغيبة ستقع بالسادس من ولدي، وهو الثاني عشر من الأئمة الهداة بعد رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، أوَّلهُم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، وآخرهم القائم بالحقِّ بقيةُ الله في الأرض وصاحب الزمان، والله لو بقي في غيبته ما بقي نوح في قومه لم يخرج من الدنيا حتى يظهر، فيملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت جوراً وظلماً»(٨).
الصنف السادس: الروايات الصريحة في أنه الخامس من ولد السابع، أعني الإمام موسى بن جعفر (عليه السلام):
منها ما رواه الصدوق (رحمه الله) بسنده عن صفوان بن مهران، عن الصادق جعفر بن محمد (عليهما السلام) أنه قال: «من أقرَّ بجميع الأئمة وجحد المهدي كان كمن أقرَّ بجميع الأنبياء وجحد محمداً (صلّى الله عليه وآله وسلّم) نبوَّتَهُ»، فقيل له: يا بن رسول الله، فمن المهديُّ من ولدك؟ قال: «الخامس من ولد السابع، يغيب عنكم شخصه، ولا يحلُّ لكم تسميته»(٩).
الصنف السابع: الروايات الصريحة في أنَّ الأئمة اثنا عشر إماماً:
وبضمِّها إلى حديث الثقلين الدالّ على أنَّهم والقرآن لا يفترقان إلى يوم القيامة، يلزم أن يكون الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) هو الإمام بعد العسكري (عليه السلام) مباشرة، ولازمه أن يكون قد تولَّد قبل زمان وفاة الإمام العسكري (عليه السلام) ليكون الإمام بعد وفاته مباشرةً، وإلّا لحصل الافتراق بين الأئمة (عليهم السلام) والقرآن الكريم.
أمَّا روايات الاثني عشر فمن قبيل: ما رواه الكلينيُّ بسنده عن سليم بن قيس، قال: سمعت عبد الله بن جعفر الطيار يقول: كنّا عند معاوية، أنا، والحسن، والحسين، وعبد الله بن عباس، وعمر بن أمِّ سلمة، وأسامة بن زيد، فجرى بيني وبين معاوية كلامٌ، فقلت لمعاوية: سمعتُ رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يقول: «أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم، ثم أخي علي بن أبي طالب أولى بالمؤمنين من أنفسهم، فإذا استُشِهدَ عليٌّ فالحسنُ بن عليٍّ أولى بالمؤمنين من أنفسهم، ثم ابني الحسينُ من بعده أولى بالمؤمنين من أنفسهم، فإذا استُشهِدَ فابنه عليُّ بن الحسين أولى بالمؤمنين من أنفسهم، وستدركه يا عليُّ، ثم ابنُه محمدُ بن علي أولى بالمؤمنين من أنفسهم، وستدركه يا حسين، ثم تَكمِلَةُ اثني عشر إماماً، تسعةٌ من ولد الحسين»، قال عبد الله بن جعفر: واستشهدتُ الحسنَ والحسينَ وعبدَ الله بنَ عباسٍ وعُمَرَ بنَ أمِّ سلمة وأسامةَ بنَ زيدٍ، فشهدوا لي عند معاوية، قال سليم: وقد سمعت ذلك من سلمان، وأبي ذرٍّ، والمقداد، وذكروا أنَّهم سمعوا ذلك من رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)(١٠).
وأمَّا روايات حديث الثقلين فهي متواترة، من قبيل: ما رواه الصدوق (رحمه الله) بسنده عن الريان بن الصلت، قال: حضر الرضا (عليه السلام) مجلس المأمون بمَرْوٍ وقد اجتمع في مجلسه جماعة من علماء أهل العراق وخراسان... إلى أن قال: فقال المأمون: مَن العترةُ الطاهرةُ؟ فقال الرضا (عليه السلام): «الذين وصفهم الله في كتابه فقال (عزَّ وجلَّ): ﴿إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً﴾ [الأحزاب: ٣٣]، وهم الذين قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): إني مخلِّف فيكم الثقلين؛ كتابَ الله، وعترتي أهلَ بيتي، وإنَّهما لن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوضَ، فانظروا كيف تخلفوني فيهما...»(١١).
الصنف الثامن: الروايات الواردة في تسمية الأئمة الاثني عشر واحداً واحداً:
وأنَّ الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) هو الابن المباشر للحسن العسكري (عليه السلام)، منها:
ما رواه الكليني بسنده ما رواه الكليني بسنده عن أبي هاشم داود بن القاسم الجعفري، عن أبي جعفر الثاني (عليه السلام)، قال: «أقبل أمير المؤمنين (عليه السلام)، ومعه الحسن بن علي (عليه السلام)، وهو متَّكِئٌ على يد سليمان، فدخل المسجد الحرام فجلس، إذ أقبل رجل حسن الهيئة واللباس، فسلَّم على أمير المؤمنين، فردَّ (عليه السلام)، فجلس، ثم قال: يا أمير المؤمنين؛ أسألك عن ثلاث مسائل، إن أخبرتني بهنَّ علمتُ أن القوم ركبوا من أمرك ما قضى عليهم، وأن ليسوا بمأمونين في دنياهم وآخرتهم، وإن تكن الأخرى علمتُ أنك وهم شَرَعٌ سواء، فقال له أمير المؤمنين (عليه السلام): سلني عمَّا بَدَا لَكَ، قال: أخبرني عن الرجل إذا نام، أين تذهب روحه؟ وعن الرجل كيف يذكر وينسى؟ وعن الرجل كيف يشبه وَلَدُهُ الأعمام والأخوال؟ فالتفت أمير المؤمنين (عليه السلام) إلى الحسن فقال: يا أبا محمدٍ أَجِبْهُ، قال: فأجابه الحسن (عليه السلام)، فقال الرجل: أشهد أن لا إله إلّا الله، ولم أزل أشهدُ بها، وأشهد أنَّ محمداً رسول الله، ولم أزل أشهدُ بذلك، وأشهد أنَّك وصيُّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، والقائم بحجَّته - وأشار إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) - ولم أزل أشهدُ بها، وأشهد أنَّك وصيُّه والقائم بحجَّته - وأشار إلى الحسن (عليه السلام) - وأشهد أن الحسين بن عليٍّ وصيُّ أخيه، والقائمُ بحجَّته بعده، وأشهد على عليِّ بن الحسين أنَّه القائم بأمر الحسين بعده، وأشهد على محمدِ بن عليٍّ أنَّه القائم بأمر عليِّ بن الحسين، وأشهد على جعفر بن محمد بأنَّه القائم بأمر محمدٍ، وأشهد على موسى أنَّه القائم بأمر جعفر بن محمدٍ، وأشهد على عليِّ بن موسى أنَّه القائم بأمر موسى بن جعفرٍ، وأشهد على محمدِ بن عليٍّ أنَّه القائم بأمر علي بن موسى، وأشهد على عليِّ بن محمدٍ بأنَّه القائم بأمر محمد بن عليٍّ، وأشهد على الحسن بن عليٍّ بأنَّه القائم بأمر عليِّ بن محمدٍ، وأشهد على رجلٍ من وُلد الحسن لا يُكَنَّى، ولا يُسَمَّى حتى يَظهر أمرُهُ، فيملأُها عدلاً كما ملئت جوراً، والسَّلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته، ثم قام فمضى ، فقال أمير المؤمنين (عليه السلام): يا أبا محمد؛ اتَّبِعهُ فانظر أين يقصد، فخرج الحسن بن علي (عليهما السلام)، فقال: ما كان إلّا أن وضع رجله خارجاً من المسجد فما دريت أين أخذ من أرض الله، فرجعت إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) فأعلمته، فقال: يا أبا محمد؛ أتعرفه؟ قلت: الله ورسوله وأمير المؤمنين أعلم، قال: هو الخضر (عليه السلام)»(١٢).
الصنف التاسع: الروايات الواردة في أن من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية:
اللازم منها وجود إمام لكلِّ زمان، وبناءً على أن الأئمة اثنا عشر إماماً، وأن الثاني عشر هو الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) فيلزم أن يكون هو الإمام منذ وفاة العسكري (عليه السلام) إلى يومنا هذا، وهو يستلزم تولُّده من العسكري (عليه السلام) مباشرة ليخلفه بعد موته.
ومن روايات هذا الصنف: ما رواه الكلينيُّ بسنده عن فضيل بن يسار، قال: سمعت أبا جعفر (عليه السلام) يقول: «من مات وليس له إمامٌ فمِيتَتُهُ مِيْتَةُ جاهليَّةٍ، ومن مات وهو عارفٌ لإمامه لم يَضُرُّهُ تقدَّمَ هذا الأمرُ أو تأخَّرَ، ومن مات وهو عارفٌ لإمامه كان كمن هو مع القائم في فُسْطَاطِهِ»(١٣).
الصنف العاشر: الروايات الواردة في أن الأرض لا تخلو من إمام:
وأنها لو خلت منه لساخت بأهلها، وحيث إنها خلت من الإمام الحادي عشر الحسن بن علي العسكري (عليه السلام) سنة (٢٦٠هـ) فيلزم أن يخلفه الثاني عشر بلا فصل، لئلا تخلو الأرض من الإمام، وذلك يستلزم كونه قد تولَّد منه قبل وفاته، أي قبل سنة (٢٦٠هـ).
فلاحظ ما رواه الصفَّار (رحمه الله) بسنده عن أبي حمزة الثمالي، قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): تبقى الأرض بغير إمام؟ قال: «لو بقيت الأرض بغير إمام لساخت»(١٤).
الصنف الحادي عشر: الروايات الواردة في أن الأرض لا تخلو من قائم لله بحجة إمّا ظاهراً مشهوراً أو خائفاً مستوراً:
وانطباق الظاهر المشهور على الأئمة الأحد عشر (عليهم السلام)، وعدم انطباق المستور على أحد منهم، فلزم أن يكون هو الثاني عشر، وهو الإمام الغائب (عجَّل الله فرجه)، إذ لم تُدّعَ الغيبة لأحد منهم سواه.
فلاحظ ما رواه الصدوق بسنده عن كميل بن زياد، في حديث طويل عن أمير المؤمنين (عليه السلام)، جاء فيه: «اللهم بلى لا تخلو الأرض من قائمٍ بحجّةٍ ظاهر أو خائف مغمور، لئلا تبطل حججُ الله وبيَّناتُه، وكم وأين؟ أولئك الأقلُّون عدداً، الأعظمون خطراً، بهم يحفظ الله حججه حتى يودعوها نظراءهم، ويزرعوها في قلوب أشباههم»(١٥).
الصنف الثاني عشر: الروايات الواردة في النهي عن ذكر الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) باسمه:
والتي علَّلت النهي بالخوف عليه أو على الشيعة، فإنها لا تنسجم مع القول بأنه سيولد في آخر الزمان ويقوم، لأنه حينما يقوم سيعلن بنفسه عن اسمه ونسبه، فلا توجد فترة يعلم فيها الشيعة بظهوره قبل قيامه ليحرم عليهم ذكره باسمه، من قبيل ما رواه الكلينيُّ بسنده عن داود بن القاسم الجعفري، قال: سمعت أبا الحسن العسكري (عليه السلام) يقول: «الخلف من بعدي الحسن، فكيف لكم بالخلف من بعد الخلف»؟، فقلت: ولِمَ جعلني الله فداك؟ قال: «إنكم لا ترون شخصه، ولا يحلُّ لكم ذكره باسمه»، فقلت: فكيف نذكره؟ فقال: قولوا: «الحجة من آل محمد صلوات الله عليه وسلامه»(١٦).
الصنف الثالث عشر: جملة من الروايات الواردة في وقوع الغيبة التي يلزم من صدورها أن يكون الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) الغائب متولِّداً من الإمام العسكري (عليه السلام)، منها:
ما رواه الشيخ الطوسي بسنده عن أم هاني، قالت: لقيت أبا جعفر (عليه السلام)، فسألته عن قول الله تعالى: ﴿فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ * الْجَوارِ الْكُنَّسِ﴾ [التكوير: ١٥-١٦]، فقال: «إمام يخنس في زمانه عند انقطاعٍ من علمه عند الناس سنة ستين ومائتين، ثم يبدو كالشهاب الوقَّاد، فإن أدركت ذلك قُرَّتْ عينك»(١٧).
ولا ينطبق هذا الحديث إلّا على مولود يولد للعسكريِّ (عليه السلام) قبل وفاته، ثم يغيب في سنة (٢٦٠هـ)، وهي سنة وفاة العسكريِّ (عليه السلام).
الصنف الرابع عشر: ما ورد في أنه كلَّما مضى إمامٌ قام إمام بعده:
ومنها ما رواه الكلينيُّ بسنده عن معروف بن خربوذ، عن أبي جعفر (عليه السلام)، قال: «إنَّما نحن كنجوم السماء، كلَّما غاب نجمٌ طلع نجمٌ...»(١٨)، ولا كلام في أنَّ الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) هو النجم الثاني عشر، وبعد غياب نجم الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) لابدَّ من ظهور نجم الحجَّة (عجَّل الله فرجه)، ليصدق «طلع نجمٌ».
الصنف الخامس عشر: الروايات الواردة في أن نزول الأمر في ليلة القدر من كلّ سنة لا يكون إلّا على وليَّ الأمر، وهو المعصوم (عليه السلام)، منها:
ما رواه الكليني عن أبي عبد الله، عن أبيه (عليهما السلام)، عن أمير المؤمنين (عليه السلام) في حديث جرى بينه وبين ابن عباس جاء فيه: «إنَّ ليلة القدر في كلِّ سنةٍ، وإنَّه ينزل في تلك الليلة أمرُ السنة، وإنَّ لذلك الأمر ولاةً بعد رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)»، فقلت: من هم؟ فقال: «أنا وأحد عشر من صلبي أئمَّةٌ محدثون»(١٩).
الصنف السادس عشر: الروايات الصريحة في أنَّ لكلَّ قوم هادٍ يهديهم في زمانهم، فلو كان الإمام الثاني عشر (عجَّل الله فرجه) سيولد في آخر الزمان فلازمه أنَّ الأقوام الذين وجدوا بين عصره وعصر الإمام الحادي عشر (عليه السلام) - وهي أقوامٌ كثيرة جدّاً - بلا هادٍ، من قبيل ما رواه الصدوق: حدّثنا أبي (رضي الله عنه)، قال: حدّثنا سعد بن عبد الله، قال: حدّثنا أحمد بن محمّد بن عيسى، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن عمر بن أُذينة، عن بريد بن معاوية العجليِّ، قال: قلت لأبي جعفر (عليه السلام): ما معنى ﴿إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ﴾ [الرعد: ٧]؟ فقال: «المنذر رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وعليٌّ الهاديُّ، وفي كلّ وقتٍ وزمانٍ إمامٌ منَّا يهديهم إلى ما جاء به رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)»(٢٠).
الصنف السابع عشر: ما ورد فيمن هنَّأ إمامنا الحسن العسكري (عليه السلام) بولادة المهدي (عجَّل الله فرجه)، وهو ما رواه الصدوق (رحمه الله) بسنده عن أبي الفضل الحسن بن الحسين العلوي، قال: دخلت على أبي محمد الحسن بن علي (عليهما السلام) بسُرَّ من رأى، فهَنَّأتُهُ بولادة ابنه القائم (عليه السلام)(٢١).
الصنف الثامن عشر: الروايات الواردة فيمن رآه (عجَّل الله فرجه) بعد مولده، من قبيل:
ما رواه الصدوق (رحمه الله) بسنده عن محمد بن الحسن الكرخي قال: سمعت أبا هارون - رجلاً من أصحابنا - يقول: رأيت صاحب الزمان (عليه السلام)، وكان مولده يوم الجمعة سنة ست وخمسين ومائتين(٢٢).
ولعلَّك تقول: إن هذا الصنف والذي سبقه، يندرجان تحت الصنف الثالث الذي يضمُّ روايات ما بعد الولادة.
وجوابه: أنَّ المقصود بروايات ذلك الصنف روايات المعصومين (عليهم السلام) حصراً، بخلاف روايات هذين الصنفين.
الصنف التاسع عشر: الروايات الواردة في وجود عدلٍ من أهل البيت (عليهم السلام) في كلِّ خَلَف من هذه الأُمَّة - أي في كلِّ جيل وعصر - ينفي عن هذا الدين تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين، ولم تعرف الشيعة في زمن الغيبة الصغرى أحداً بهذه الوصف بحسب الظاهر سوى السفراء، لما يخرج على يدهم من البيانات التي تنفي عن الدين ما ذكر، وليس في السفراء أحد ينتسب إلى أهل البيت (عليهم السلام)، فلم يبق إلّا أن يكون العدل في ذلك الزمان هو من يتَّصل به السفراء، وهو المهديِّ (عجَّل الله فرجه)، فقد روى الصدوق بسنده عن أبي الحسن الليثي، قال: حدَّثني جعفر بن محمد عن آبائه (عليهم السلام)، أن النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قال: «إنَّ في كلِّ خَلَفٍ من أُمَّتي عدلاً من أهل بيتي ينفي عن هذا الدين تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين، وإنَّ أئمَّتكم قادتُكم إلى الله (عزَّ وجلَّ)، فانظروا بمن تقتدون في دينكم وصلاتكم»(٢٣).
الصنف العشرون: الروايات الناقلة للتوقيعات المنسوبة إليه (عجَّل الله فرجه)، ومنها: من كان الناسب من لا يُشكُّ في صدقه وورعه، ومنها المقترن بما يشهد أنه لم يصدر إلّا من معصوم، من قبيل: ما رواه الصدوق بسنده عن محمد بن صالح الهمداني(٢٤)، قال: كتبت إلى صاحب الزمان (عجَّل الله فرجه): إنَّ أهل بيتي يؤذونني ويُقَرِّعونني بالحديث الذي رُوي عن آبائك (عليهم السلام) أنَّهم قالوا: (قُوَّامنا وخُدَّامنا شرار خلق الله)، فكتب (عليه السلام): «ويحكم، أما تقرؤون ما قال (عزَّ وجلَّ): ﴿وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بارَكْنا فِيها قُرى ظاهِرَةً﴾ [سبأ: ١٨]؟ ونحن والله القرى التي بارك الله فيها، وأنتم القرى الظاهرة»(٢٥).
هذه عشرون صنفاً من الروايات الدالَّة على تحقق ولادة الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) إمَّا بالمطابقة أو بالالتزام، وهي روايات كثيرة جداً - ويعلم ذلك من كتابنا (الحجة على من أنكر ولادة الحجة (عجَّل الله فرجه)) - بحيث يستحيل عادةً كذب جميعها، لاسيما وفيها ما هو معتبر سنداً، فيحصل العلم الإجمالي بصدور ولو رواية واحدة منها، وهو كافٍ في حصول القطع بلازمها، أعني تولُّد الحجَّة (عجَّل الله فرجه) من الحسن العسكري (عليه السلام) بلا واسطة قبل سنة مائتين وستين للهجرة على مهاجرها وآله الصلاة والسلام.
ولا يمكن لأحد تكذيب جميعها إلّا أن يكون في عقله لوثة والعياذ بالله الذي نستجير به من سوء العاقبة.
الإجماع على سفرائه ووكلائه (عجَّل الله فرجه):
إنَّ السفارة والوكالة عن شخصٍ فرع وجوده، إذ لا يصحَّان عن المعدوم حتى لو كان سيوجد مستقبلاً، وظاهرة السفارة عن الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) - وكذا الوكالة عنه على غرار ما كانت عن آبائه الطاهرين (عليهم السلام) - أمر مجمع عليه بين الطائفة، يعرف ذلك من مراجعة كتبها في الرجال والفهارس والتراجم وغيرها، وأنَّ السفارة والوكالة ختمتا بعليِّ بن محمد السمريِّ (رحمه الله)، وانتهت بوفاته سنة (٣٢٩هـ).
وقد ذكر الشيخ الطوسي (رحمه الله) في غيبته نقلاً عن جعفر بن قولويه (رحمه الله) الإجماع على أنَّ السَّفارة عن الحجة (عجَّل الله فرجه) خُتمت بعلي بن محمد السَّمري، وتكذيب كلّ من يدَّعيها من بعده، حيث قال في معرض كلامه على بعض مدَّعيها: (فلَعَنَّاهُ وبرئنا منه، لأنَّ عندنا أنَّ كلَّ من ادَّعى هذا الأمر بعد السَّمري فهو كافرٌ مُنَمِّسٌ ضالٌّ مُضِلٌّ)(٢٦).
وبديهي أنَّ هذا الإجماع لا يصحُّ إلّا بعد فرض وجود الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) في عصر السفراء الأربعة الممتدِّ من زمان وفاة إمامنا الحسن العسكريِّ (عليه السلام) سنة (٢٦٠هـ) إلى وفاة السفير الرابع سنة (٣٢٩هـ)، وإلّا لم يصدق عليهم عنوان السُّفراء.
إن قلت: إن إجماع الإماميَّة وإن كان حجَّة قطعيّة إلّا أنَّها تختصُّ بهم، ولا يكون حجَّة على غيرهم.
قلت: إن الغرض من الجواب هو الردُّ على من أنكر ولادة الحجة (عجَّل الله فرجه) في هذا العصر ممَّن ينتسب إلى الإماميَّة الاثني عشرية، لا مطلقاً.
إن قلت: إن كان المنكر من الطائفة الاثني عشرية فإنكاره ينسف هذا الإجماع الذي نسبتموه إلى الطائفة.
قلت: من الواضح والمسلَّم به أنَّ الإجماع بعد ثبوته يكون حجَّة، والحجَّة لا تنسف إلَّا بحجَّة مثلها أو أقوى منها، وبالتالي فإنكار المعاصر لإجماع المتقدِّمين لا ينسفه، ولا أثر له من هذه الناحية.
نعم، له أثر على نفس المنكر، حيث يحكم بخروجه من المذهب، كما لو زعم إماميٌّ اليوم لا عن جهلٍ ولا عن شبهةٍ أنَّ نكاح المتعة حرام، لأنَّ ثبوت جوازه عند هذه الطائفة أمر مجمع عليه قديماً وحديثاً وبقطع النظر عن دلالة الروايات على جوازه.
الأخبار الواردة فيمن رآه (عجَّل الله فرجه):
لقد سجَّل جملة من أعلام الطائفة في بعض مصنَّفاتهم جملة من الأخبار الواردة في من رأى الحجة (عجَّل الله فرجه) من الثقات والعلماء والصالحين، وأسانيد بعضها معتبر، وهي على طائفتين:
١ - الأخبار الواردة في لقاء بعض الثقات به (عجَّل الله فرجه) في الغيبة الصغرى، من قبيل ما رواه الشيخ المفيد (رحمه الله) بسنده عن محمد بن إسماعيل بن موسى بن جعفر - وكان أَسَنَّ شيخٍ من ولد رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بالعراق - قال: (رأيت ابن الحسن بن علي بن محمد (عليهم السلام) بين المسجدين وهو غلامٌ)(٢٧).
٢ - الأخبار الواردة في لقاء بعض العلماء والصالحين به (عجَّل الله فرجه) في الغيبة الكبرى، حتى أفرد بعض الأعلام في ذلك رسائل مفردة أو ضمن مؤلفاتهم، كالعلَّامة الميرزا حسين النوري (نوَّر الله ضريحه) في كتابه جنَّة المأوى، ونقل في كتابه النجم الثاقب مائة حكاية بعضها في لقاء سيد الطائفة بحر العلوم (رحمه الله) بإمامنا المهدي (عجَّل الله فرجه).
ومنها: حدّثني العالم الكامل، والزاهد العامل، والعارف البصير، الأخ الإيماني، والصديق الروحاني، الآقا علي رضا (طيَّب الله ثراه) خَلَفُ العالم الجليل الحاج الملّا محمد النائيني، وابنُ أخت فخر العلماء الزاهدين الحاج محمد إبراهيم الكلباسي (رحمه الله) الذي لم يكن له نظير في الصفات النفسانية، والكمالات الإنسانية، من الخوف، والمحبّة، والصبر، والرضا، والشوق، والإعراض عن الدنيا، قال(٢٨): حدّثني العالم الجليل الآقا الآخوند الملَّا زين العابدين السلماسي السابق الذكر(٢٩)، قال: كنت حاضراً في مجلس درس آية الله السيد السند، والعالم المسدَّد، فخر الشيعة، العلَّامة الطباطبائي بحر العلوم (رحمه الله) في المشهد الغروي، إذ دخل عليه لزيارته المحقِّقُ القمِّيُّ صاحبُ القوانين في السنة التي رجع من العجم إلى العراق زائراً لقبور الأئمة (عليهم السلام)، وحاجّاً لبيت الله الحرام، فتفرَّق من كان في المجلس، وحضر للاستفادة منه، وكانوا أزيد من مائة، وبقي ثلاثةٌ من أصحابه أرباب الورع والسَّداد البالغين إلى رتبة الاجتهاد، فتوجَّه المحقّق الأَيِّدُ إلى جناب السيد وقال: إنَّكم فُزتم وحُزتم مرتبة الولادة الرَّوحانية والجسمانية، وقربَ المكان الظاهريِّ والباطنيِّ، فتصدَّقوا علينا بذكر مائدةٍ من موائد تلك(٣٠) الخوان، وثمرة من الثمار التي جنيتم من هذه الجنان، كي ينشرح به الصدور، ويطمئنّ به القلوب(٣١).
فأجاب السيد من غير تأمّل وقال: إنّي كنت في الليلة الماضية قبل ليلتين أو أقلّ - والترديد من الراوي - في المسجد الأعظم بالكوفة، لأداء نافلة الليل عازماً على الرجوع إلى النجف في أوّل الصبح، لئلّا يتعطّل أمر البحث والمذاكرة - وهكذا كان دأبه في سنين عديدة(٣٢) - فلمَّا خرجتُ من المسجد أُلقِيَ في روعي الشوقُ إلى مسجد السهلة، فصرفت خيالي عنه خوفاً من عدم الوصول إلى البلد قبل الصبح، فيفوت البحث في اليوم، ولكن كان الشوق يزيد في كلِّ آنٍ، ويميل القلب إلى ذلك المكان، فبينا أُقدِّم رجلاً واُؤخِّر أُخرى إذا بريحٍ فيها غبارٌ كثير، فهاجت بي، وأمالتني عن الطريق، فكأنّها التوفيق الذي هو خير رفيق، إلى أن ألقتني إلى باب المسجد، فدخلت، فإذا به خالياً عن العبّاد والزوّار، إلّا شخصاً جليلاً مشغولاً بالمناجاة مع الجبّار بكلمات تُرِقُّ القلوبَ القاسية، وتُسِحُّ الدموع من العيون الجامدة، فطار بالي، وتغيّرت حالي، ورجفت رُكبَتَيَّ، وهملت دمعتي من استماع تلك الكلمات التي لم تسمعها أُذُني، ولم تَرَها عيني ممّا(٣٣) وصلتُ إليه من الأدعية المأثورة، وعرفت أنّ الناجي(٣٤) ينشئها في الحال، لا أنّه ينشد ما أودعه في البال، فوقفت في مكاني مستمعاً متلذّذاً إلى أن فرغ من مناجاته، فالتفتَ إليَّ وصاح بلسان العجم: «مهدي؛ بيا» أي: هَلُمَّ يا مهدي، فتقدّمت إليه بخطواتٍ فوقفت، فأمرني بالتقدُّم، فمشيت قليلاً ثم وقفت، فأمرني بالتقدُّم وقال: «إنّ الأدب في الامتثال»، فتقدَّمت إليه بحيث تصل يدي إليه ويده الشريفة إليَّ، وتكلَّم بكلمةٍ.
قال المولى السلماسي (رحمه الله): ولمّا بلغ كلامُ السيد السند إلى هنا أضرب عنه صفحاً، وطوى عنه كشحاً، وشرع في الجواب عمَّا سأله المحقِّق المذكور قبل ذلك عن سرِّ قلَّة تصانيفه مع طول باعه في العلوم، فذكر له وجوهاً، فعاد المحقِّق القمِّيُّ فسأله عن هذا الكلام الخفيِّ، فأشار بيده شبه المنكر بأنَّ هذا سرٌّ لا يذكر(٣٥).
وهذه الحكاية ينقلها الميرزا النوري (رحمه الله) عن سيد الطائفة بواسطتين وصفتا بما يدلُّ على وثاقتهما، بل أعلى درجات الوثاقة.
أمَّا الآقا علي رضا الذي نقل النوري عنه بلا واسطة فقد وصفه بالعالم، والكامل، والزاهد، والعامل، والعارف، والبصير، والأخ الإيماني، والصديق الروحاني.
وأمَّا الآقا السلماسي فقد وصفه علي رضا الذي ينقل عنه بلا واسطة بالآخوند، والملَّا، والعالم الجليل.
وأنت خبير بأنَّ هذه الصفات تدلُّ على ما هو فوق الوثاقة المجرَّدة، فيكون نقل الميرزا عن بحر العلوم بواسطتين موثوق بهما.
وبملاحظة مجموع الحكايات التي نقلها النوري في النجم الثاقب والبالغة مائة حكاية وبضميمة ما نقله غيره يحصل علم إجماليٌّ بصدق بعضها، وهو كافٍ في إثبات التشرُّف بلقاء الحجَّة (عجَّل الله فرجه) في زمن الغيبة الكبرى.
ومعلوم أنَّ المقصود من العلم إجمالاً بصدق بعضها هو العلم بصدق بعضها لا على التعيين، أي أن العقل بعد ملاحظته لمجموع الحكايات يقطع بحصول اللقاء، ولا يهمُّ حينئذٍ عدم تشخيص من الذي التقى بالمهديِّ (عجَّل الله فرجه) تحديداً.
إشكالات ودفع:
لقد أشكل من تناقضت مواقفه من دعاوى اللقاء فآمن بصدق بعضها لا على التعيين مدَّة من حياته، كما هو الصحيح، لما ذكرنا من حصول العلم الإجمالي بملاحظة مجموع الحكايات، ثمَّ صار منكراً لها بالمطلق، لتعليلات مضحكة للثكلى.
من قبيل: عدم وجود خصوصيَّة لمن ادُّعِيَ لقاؤه (عجَّل الله فرجه) بهم، بل وصل به الأمر أن يستخفَّ ببعضهم، لمجرَّد أنَّهم من عامَّة الناس، وليسوا من العلماء مثلاً!
ومن قبيل: أنَّ الإمام (عجَّل الله فرجه) ليس مؤسَّسة خيريَّة ليحلّ لهذا مشكلته، ويشافي لذاك مرضه، أو ينقذ من الهلاك حياته، أو غير ذلك ممَّا نقل في حكايات اللقاء به (عجَّل الله فرجه)!
ولولا أن يتأثَّر العوامُّ بمثل هذه التُّرَّهات المقدَّمة في ثوب إشكالات لما كانت تساوي حبر الجواب عليها، والذي حاصله: أنَّ الملاك في لقاء الحجَّة (عجَّل الله فرجه) لهذا أو ذاك أمرٌ لا نعلمه، وعدم العلم به لا يصلح مستنداً لإنكار أصل اللقاء.
ولعمري أنَّ هذا الجواب لا يخفى على أمِّيٍّ لا يقرأ ولا يكتب، ولو سألته عن السبب في لقاء الحجة (عجَّل الله فرجه) لبعض دون بعض لأجابك بأنَّ الإمام أدرى بما يصنع، في حين فات الجواب المذكور من يدَّعي لنفسه من المكانة العلميَّة ما يدَّعي!
كلام بعض أعلام العامة:
لقد اعترف جملة من أعلام العامة في بعض مصنَّفاتهم بتولُّد الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) من الحسن العسكري (عليه السلام)، ومنهم: ابن حجر الهيتمي (ت ٩٧٤هـ) في صواعقه في معرض حديثه عن بعض أحوال إمامنا الحسن العسكري (عليه السلام)، حيث قال ما نصُّه: (ولمَّا حُبس قحط الناس بسُرَّ من رأى قحطاً شديداً، فأمر الخليفةُ المعتمد ابنُ المتوكل بالخروج للاستسقاء ثلاثة أيام، فلم يُسْقَوْا، فخرج النصارى ومعهم راهبٌ كلَّما مدَّ يده إلى السماء هطلت، ثم في اليوم الثاني كذلك، فشكَّ بعض الجهلة، وارتدَّ بعضهم، فشقَّ ذلك على الخليفة، فأمر بإحضار الحسن الخالص، وقال له: أدرك أمَّة جدِّك رسول الله قبل أن يهلكوا، فقال الحسن: يخرجون غداً وأنا أزيل الشكَّ إن شاء الله، وكلَّم الخليفة في إطلاق أصحابه من السجن، فأطلقهم، فلمَّا خرج الناس للاستسقاء ورفع الراهبُ يده مع النصارى غيَّمت السماء، فأمر الحسن بالقبض على يده، فإذا فيها عظمُ آدميٍّ، فأخذه من يده وقال: استسق، فرفع يده، فزال الغيم وطلعت الشمس، فعجب الناس من ذلك، فقال الخليفة للحسن: ما هذا يا أبا محمد؟ فقال: هذا عظم نبيٍّ ظفر به هذا الراهب من بعض القبور، وما كُشف من عظم نبيٍّ تحت السماء إلَّا هطلت بالمطر، فامتحنوا ذلك العظم، فكان كما قال، وزالت الشبهة عن الناس، ورجع الحسن إلى داره، وأقام عزيزاً مكرَّماً، وصِلاتُ الخليفة تصل إليه كلَّ وقت، إلى أن مات بسُرَّ من رأى، ودفن عند أبيه وعمِّه، وعمره ثمانيةٌ وعشرون سنة، ويقال إنَّه سُمَّ أيضاً، ولم يخلِّف غير ولده أبي القاسم...(٣٦) الحجَّة، وعمره عند وفاة أبيه خمس سنين، لكن آتاه الله فيها الحكمة، ويسمَّى القائم المنتظر، قيل: لأنَّه سُتر بالمدينة وغاب، فلم يعرف أين ذهب)(٣٧).
والمتحصّل من ذلك كلّه: أن الأصناف العشرين المتقدِّمة من الروايات لو لم يكن فيها ما هو مقطوعٌ بصدوره ودلالته على تولُّد الحجّة (عجَّل الله فرجه) من العسكري (عليه السلام) بلا واسطة فإنها بمجموعها - أي بضمّ بعضها إلى بعض - تفيد القطع بذلك، لا سيما لو ضُمَّ إليها الإجماع، والأخبار الناقلة لحكايات اللقاء به (عجَّل الله فرجه)، واعتراف بعض أعلام العامة بتولُّده من الحسن العسكري (عليه السلام).
ولعمري أن هذا الجواب لكفيل بإزالة الشكِّ عن كلِّ ذي فطرة سليمة وفهم مستقيم، بل حتى عن صاحب الشبهة إذا كان طالباً للحقِّ، وذلك لحصول التواتر الإجمالي بسبب ملاحظة المجموع الذي لا يلتئم إلّا مع تولُّده (عجَّل الله فرجه) من الحسن بن علي العسكري (عليه السلام) بلا واسطة، وبقائه (عجَّل الله فرجه) حيّاً حتى يأذن الله تعالى له بالقيام ليملأها قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً.
والحمد لله ربِّ العالمين، وصلواته عليه وعلى آبائه الطاهرين.

الهوامش:

(١) والذي أذهب إليه هو التفصيل بين حيثية الصدور وحيثية الظهور، أمّا من حيث الصدور فخبر الثقة يفيد الاطمئنان، وهو حجة في نفسه، بلا حاجة في ذلك إلى قرينة، وأمَّا من حيث الظهور فكما عليه المشهور، لا يفيد أكثر من الظنِّ، لاحتمال نقله الحديث بالمعنى، ويصعب القطع بأنَّه مطابق لمقصود المعصوم. نعم يمكن الاطمئنان بالمطابقة في بعض المنقولات.
(٢) يقسِّم المناطقة الدلالة اللفظية إلى ثلاث دلالات:
(الأولى): الدلالة المطابقية، كدلالة قولك: (مات زيد) على نفس معناه، وهو زهوق روحه.
(الثانية): الدلالة التضمنية، كدلالة قولك: (زارنا زيد وعائلته)، على مجيء زوجته، لأنَّها أحد أفراد عائلته، فيكون إخبارك بمجيء العائلة إخباراً بمجيء الزوجة ضمناً.
(الثالثة): الدلالة الالتزامية، كدلالة قولك: (زيد صرع الأبطال)، على قوَّته، إذ لولا قوَّته لما تمكَّن من أن يصرعهم.
هذا ما عليه المناطقة، ومقصودنا من دلالة بعض الروايات على ولادة الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) بالدلالة الالتزامية أنَّها لا تصدق إلّا إذا كان قد ولد من العسكري (عليه السلام) في حياته وقبل موته، كالرواية الدالة على أنَّ المؤمنين سوف يفقدونه سنة (٢٦٠هـ) بعد وفاة الحسن العسكري (عليه السلام)، فإنَّها تدلُّ بالدلالة الالتزامية على أنَّه قد وُلِدَ قبل التاريخ المذكور، لأنَّ الفقدان لا يصدق إلّا بعد الوجود، فلو قال شخص: (فقدت أموالي) ولم يكن لديه أموال من الأساس كان كاذباً، لأنَّ فقد المال إنَّما يكون بعد وجوده.
والروايات الدالة بالالتزام على تولُّده (عجَّل الله فرجه) من العسكري (عليه السلام) بالفعل كثيرة كما سيأتي بعضها.
(٣) الكافي ١: ٣٤٢، باب (في الغيبة)، ح٢٩.
(٤) كمال الدين وتمام النعمة ٢: ٤٢٤، ب٤٢، ح١.
(٥) مكان النقط ورد اسمه (عجَّل الله فرجه) مقطَّعاً، ولم نذكره كذلك، لبنائنا على الاحتياط في ذلك.
(٦) الكافي ١: ٣٢٩، باب (الإشارة والنص إلى صاحب الدار (عجَّل الله فرجه))، ح٥.
(٧) عيون أخبار الرضا (عليه السلام) ١: ٦٩، ب٦، ح٣٦.
(٨) كمال الدين ١: ٣٣.
(٩) كمال الدين ٢: ١، ب٣٣، ح١.
(١٠) الكافي ١: ٥٢٩، باب (ما جاء في الاثني عشر، والنص عليهم (عليهم السلام))، ح٤.
(١١) أمالي الصدوق: ٦١٥، المجلس ٧٩، ح١.
(١٢) الكافي ١: ٥٢٥، باب (ما جاء في الاثني عشر، والنص عليهم (عليهم السلام))، ح١.
(١٣) الكافي ١: ٣٧٢، باب (أنَّه من عرف إمامه لم يضره تقدّم هذا الأمر أو تأخّر)، ح٥.
(١٤) بصائر الدرجات: ٥٠٨، ب١٢(أن الأرض لا تبقى بغير إمام لو بقيت لساخت)، ح٢.
(١٥) الخصال: ١٨٦، باب الثلاثة، ح٢٥٧.
(١٦) الكافي ١: ٣٣٣، باب (في النهي عن الاسم)، ح١.
(١٧) الغيبة: ١٥٩، ح١١٦.
(١٨) الكافي ١: ٣٣٨، باب (في الغيبة)، ح٨.
(١٩) الكافي ١: ٢٤٧، باب (في شأن ﴿إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ﴾، وتفسيرها)، ح٢.
(٢٠) كمال الدين: ج٢، ص٦٦٧، ب٥٨، ح١٠..
(٢١) كمال الدين ٢: ، ذيل ب٤٢، ح١.
(٢٢) كمال الدين ٢: ٤٣٢، ب٤٢، ح٩.
(٢٣) كمال الدين ٢: ٢٢١، ب٢٢، ح٧.
(٢٤) محمد بن صالح هو الذي تقدَّم نقل المفيد لروايته في الصنف السابق، ويظهر من الروايات أنَّه كان وكيلاً للناحية المقدَّسة.
(٢٥) كمال الدين ٢: ٤٨٣، ب٤٥، ح٢.
(٢٦) الغيبة: ٤١٢، ح٣٨٥.
(٢٧) الإرشاد ٢: ٣٥١. والجملة المعترضة إمَّا أن تكون لنفس الشيخ المفيد (رحمه الله)، أو لمن روى عن محمد هذا، والأمر سهلٌ.
(٢٨) مرجع الضمير في (قال): الآقا علي رضا.
(٢٩) عبارة (السابق الذكر) هي من كلام الميرزا النوري، حيث ذكر له حكاية قبل هذه الحكاية.
(٣٠) كذا، والصحيح: ذلك.
(٣١) كذا، والصحيح: (تنشرح) و(تطمئن) ، بالتاء فيهما.
(٣٢) عبارة (وهكذا كان دأبه في سنين عديدة) هي من كلام السلماسي، أو النوري.
(٣٣) كذا، ولعلَّ الصحيح: فيما، ولكن صُحِّفت.
(٣٤) كذا، والصحيح: المناجي، ولعلَّ الميم سقطت عند النسخ أو الطبع.
(٣٥) النجم الثاقب ٢: ٢٨٤، الحكاية الثالثة والسبعون.
(٣٦) مكان النقاط ورد الاسم الصريح للحجَّة (عجَّل الله فرجه)، وإنما جعلنا مكانه نقاطاً لما نذهب إليه من الاحتياط في ذلك، استناداً إلى الروايات الناهية عن ذكره باسمه (عجَّل الله فرجه).
(٣٧) الصواعق المحرقة: ٢٠٧.

التقييم التقييم:
  ٠ / ٠.٠
 التعليقات
لا توجد تعليقات.

الإسم: *
الدولة:
البريد الإلكتروني:
النص: *

 

Specialized Studies Foundation of Imam Al-Mahdi (A-S) © 2016