أسباب غَيبة الإمام المهدي (عجّل الله فرجه)
الشيخ علي الفياض
تمهيد:
لا شك أن من الوسائل التي يستخدمها المشككون في عقيدتنا بالإمام المهدي (عجّل الله فرجه) هو الطعن في مبررات غيبته (عجّل الله فرجه)، ويتخذون هذا الطعن منشأ للتشكيك في المسائل المختلفة المتعلقة بالعقيدة المهدوية، كأصل وجوده وحياته وطول عمره وحقيقة اختفائه (عجّل الله فرجه)، وغير ذلك.
لذا نرى من اللازم إيضاح المبررات التي دعت الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) أن يغيب، وأن لا يظهر إلّا بعد قسوة القلوب وإذن الله تعالى في الظهور.
فقد وردت عشرات النصوص التي توضّح سبب الغيبة وبشكل صريح لا يقبل الشك.
ولابد من التساؤل هنا، وهو: هل ما ذكرته الروايات من أسباب الغيبة، هو من باب العلة الحقيقية التي يدور مدارها الحكم وجوداً وعدماً، أو أن هذه الأسباب ذكرت من باب الحكمة والفائدة.
وقبل الإجابة عن هذا التساؤل ينبغي توضيح بعض الألفاظ والمصطلحات التي وردت في الروايات، وهي:
السبب: يطلق السبب ويراد به إمّا السبب الاعتباري أو التكويني أو اللغوي.
ومثال الاعتباري: هو البيع، فإنه جعل سبباً لحصول الملكية.
أمّا التكويني: فمثاله أن النار سبب للإحراق.
وأمّا اللغوي: فهو ما يمكن التوصل به إلى غرض معين، كأن يمارس الإنسان أحد الأعمال التجارية، فيكون العمل سبباً لحصول المال.
العلة: هي من المتصورات القطعية، فإذا فرض صدور شيء عن غيره كان الصادر معلولاً والمصدور عنه علة، سواء كان الصدور على نحو الاستقلال كما في العلل التامة أو على سبيل الانضمام كجزء العلة(١).
وأمّا العلة في الفلسفة، فهي: ما أوجبت معلولها لذاتها ولم يتخلَّف عنها، وهي المؤلفة من المقتضي والشرط وعدم المانع(٢).
وأمّا العلة في اصطلاح علم أصول الفقه، فهي: الوصف المنضبط الذي جعله الشارع علامة على الحكم مع مناسبته له(٣).
الحكمة: هي المصلحة المقصودة للشارع من تشريع الحكم.
الغاية: الغاية عقلاً هي انتهاء الشيء، وسمِّيت نهاية الشيء غاية، لأن كل قوم ينتهون إلى غايتهم في الحرب أي رأيتهم، ثم كثر حتى قيل لكل ما ينتهى إليه، لأن الأصل اللغوي للغاية هي الراية(٤).
الشرط: عرَّفوا الشرط بأنه: الوصف المنضبط الذي يتوقف وجود الشيء عليه من غير اقتضاء لوجود المشروط عند وجوده، وإن استلزم انعدام المشروط عند عدمه(٥).
وقد يرد أكثر من شرط لمشروط واحد، كالمثال الأصولي المعروف: (إذا خفيت الجدران فقصِّر) و(إذا خفي الأذان فقصِّر)، وهنا يدور الأمر بين أحد تصرفين: هل الأولى تقييد ظهور الشرطيتين في الاستقلال (الجمع بالواو)؟ أو تقييد ظهورهما في الانحصار (الجمع بـ أو)؟ قولان في المسألة والتحقيق في علم أصول الفقه(٦).
والآن نعود للإجابة على التساؤل الذي طرح أولاً، فنقول:
إنَّ بعض الألفاظ التي وردت في النصوص، كلفظ العلة، يمكن حملها على العلة الحقيقية التامة، من قبيل ما ورد في التوقيع الشريف عن إسحاق بن يعقوب، قال: سألت محمد بن عثمان العمري (رضي الله عنه) أن يوصل لي كتاباً قد سألت فيه عن مسائل أشكلت عليَّ، فورد التوقيع بخط مولانا صاحب الزمان (عجّل الله فرجه): «... وأمّا علة ما وقع من الغَيْبَة، فإن الله (عزَّ وجلَّ) يقول: ﴿لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ﴾ [المائدة: ١٠١]، أنه لم يكن لأحد من آبائي (عليهم السلام) إلّا وقد وقعت في عنقه بيعة لطاغية زمانه، وإني أخرج حين أخرج، ولا بيعة لأحد من الطواغيت في عنقي...»(٧).
هنا يمكن القول إنَّ الإمام (عجّل الله فرجه) أراد بيان أمرين:
الأول: أن العلة التامة قد أخفيت عليكم ولا ينبغي أن تسألوا عنها.
والأمر الثاني: حاول الإمام (عجّل الله فرجه) أن يبيِّن جزء العلة أو الحكمة بأنه (عجّل الله فرجه) لا تقع في عنقه بيعة لطاغية زمانه، وهذا الأمر ليس علة تامة كما هو واضح، وسنبحث ذلك في السبب الثالث إن شاء الله تعالى.
وأمّا الأسباب التي استقرأناها من الروايات، فهي إمّا حكم أو مصالح أو أجزاء للعلة، وليست هي العلة التامة، ولكن قد نفهم من السبب الرابع الذي يأتي ذكره، وهو أن الغيبة سر من أسرار الله تعالى، أن هذا السر يشير إلى العلة التامة وليس جزء العلة.
المعنى اللغوي:
الغيبة مصدر للفعل الثلاثي غاب يقال: (غابت الشمس) أي (استترت) عن العين(٨)، فأصبحت لا تُرى، وأيضاً الغيب هو مصدر آخر للفعل غاب(٩)، وهناك مصادر أخرى منها: غياب وغيوب ومغيب(١٠)، إذن مادة غيب المتكونة من الأحرف الثلاثة (غ ي ب) تدل على التستُّر عن العيون(١١)، والخفاء عن الأبصار: خفاء الشيء عن الحس قَرُبَ أو بَعُد(١٢)، والضد للفعل غاب هو حَضَر(١٣)، والغائب خلاف الحاضر(١٤)، والغيب أيضاً يطلق في مقابل الشهادة، قوله تعالى: ﴿عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ﴾(١٥)، ويبدو أن معنى الغيب لغة اتَّسع لمعانٍ ثلاث:
المعنى الأولي: يقال غاب أي استتر عن العين، قال في المفردات: (غابت الشمس وغيرها إذا استترت عن العين)(١٦).
ثانياً: المعنى الثاني حيث اتَّسع المعنى الأول ليشمل كل ما غاب عن الحواس، فأصبح يشمل ما غاب عن السمع واللمس وغير ذلك(١٧).
ثالثاً: المعنى الثالث حيث اتَّسع أكثر ليشمل كل ما غاب عن علم الإنسان(١٨)، قال تعالى: ﴿وَما مِنْ غائِبَةٍ فِي السَّماءِ وَالْأَرضِ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ﴾ (النمل: ٧٥).
المعنى الاصطلاحي للغيبة:
ونقصد بالمعنى الاصطلاحي هو المعنى الذي استُعمل في النصوص الدينية، وخصوصاً روايات أهل البيت (عليهم السلام) التي تتكلم عن غيبة الإمام المهدي (عجّل الله فرجه)، والذي يظهر من الروايات أنَّها استُعملت في معنيين، بل ثلاثة:
المعنى الأول: أن غيبة الإمام (عجّل الله فرجه) بمعنى أن الناس يرونه ولكن لا يستطيعون التعرف عليه، أي أنه لا يُعرف، وقد يعبَّر عن ذلك باصطلاح خفاء العنوان أو خفاء الشخصية، وقد أشارت بعض النصوص إلى ذلك:
١ - قال الشيخ الصدوق: حدثنا محمد بن موسى بن المتوكل (رحمه الله) قال: حدثنا عبد الله بن جعفر الحميري عن محمد بن عثمان العمري (رحمه الله)، قال: سمعته يقول: والله إنَّ صاحب هذا الأمر ليحضر الموسم كل سنَّة، فيرى الناس ويعرفهم ويرونه ولا يعرفونه(١٩).
٢ - قال الشيخ النعماني: حدثنا علي بن أحمد، قال: حدثنا عبيد الله بن موسى العلوي عن أحمد بن الحسين عن أحمد بن هلال عن عبد الرحمن بن أبي نجران عن فضاله بن أيوب عن سدير الصيرفي قال: سمعت أبا عبد الله الصادق (عليه السلام) يقول: «إن في صاحب هذا الأمر لشبهاً من يوسف».
فقلت: فكأنك تخبرنا بغيبة أو حيرة؟!
فقال: «ما ينكر هذا الخلق الملعون أشباه الخنازير، من ذلك؟ إن إخوة يوسف كانوا عقلاء، ألبّاء، أسباطاً، أولاد أنبياء، دخلوا عليه فكلموه وخاطبوه وتاجروه وراودوه، وكانوا إخوته وهو أخوهم، لم يعرفوه حتّى عرَّفهم نفسه، وقال لهم: أنا يوسف، فعرفوه حينئذٍ، فما تنكر هذه الأُمَّة المتحيرة أن يكون الله (عزَّ وجلَّ) يريد في وقت من الأوقات أن يستر حجته عنهم، لقد كان يوسف النبي ملك مصر، وكان بينه وبين أبيه مسيرة ثمانية عشر يوماً، فلو أراد أن يُعلمه بمكانه لقدر على ذلك، والله لقد سار يعقوب وولده عند البشارة تسعة أيَّام من بدوهم إلى مصر، فما تنكر هذه الأُمَّة أن يكون الله يفعل بحجته ما فعل بيوسف، وأن يكون صاحبكم المظلوم المجحود حقه، صاحب هذا الأمر يتردد بينهم، ويمشي في أسواقهم، ويطأ فرشهم ولا يعرفونه، حتى يأذن الله له أن يعرِّفهم نفسه كما أذِن ليوسف حين قال له إخوته: ﴿قالُوا أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قالَ أَنَا يُوسُفُ﴾ [يوسف: ٩٠]»(٢٠).
المعنى الثاني: أن غيبة الإمام (عجّل الله فرجه) تعني أنَّه لا يراه الناس، فضلاً عن أنهم لا يعرفونه رغم وجوده، فيكون غير مرئي الجسم، نظير الملائكة والجن، فإن الإنسان لا يستطيع أن يراهم فضلاً عن التعرف عليهم، وقد يعبّر عن ذلك في الاصطلاح بخفاء المعنون، أو خفاء الجسم، أو خفاء الشخص، وغير ذلك من التعبيرات، ولنذكر نموذجين من النصوص التي دلّت على هذا المعنى للغيبة:
١ - قال الشيخ الكليني: عدة من أصحابنا عن جعفر بن محمد عن ابن فضال عن الريان بن الصلت قال: سمعت أبا الحسن الرضا (عليه السلام) يقول - وسُئل عن القائم - فقال: «لا يرى جسمه، ولا يسمى اسمه»(٢١).
٢ - روى الشيخ علي بن بابويه عن سعد بن عبد الله عن محمد بن أحمد العلوي عن أبي هاشم الجعفري قال: سمعت أبا الحسن العسكري (عليه السلام) يقول: «الخلف (من بعدي ابني الحسن)، فكيف لكم بالخلف من بعد الخلف»؟ قلتُ: ولِمَ جعلني الله فداك؟ قال: «لأنكم لا ترون شخصه ولا يحلُّ لكم ذكره باسمه». قلت: فكيف نذكره؟ فقال: «قولوا: الحجة من آل محمد صلوات الله عليه وسلامه»(٢٢).
المعنى الثالث: وهو جمع بين الرأيين، أي بين أن لا يُعرف شخصُه وبين أن لا يرى جسمه، وذلك باختلاف الأزمنة، فبعض الأوقات الإمام (عجّل الله فرجه) يمكن أن يُرى جسمه حسب الظروف التي يعيشها، وهذا وجه للجمع بين الطائفتين من الروايات، وإذا صحَّ هذا الجمع، فلا تكون هناك حاجة لترجيح أحد المعنيين المتقدمين على الآخر، وأيضاً لا نرى ضرورة عقائدية لترجيح أحد الرأيين، فنتعامل مع ظاهر النصوص من دون حاجة إلى تأويل.
أسباب غيبة الإمام (عجّل الله فرجه):
من المسائل المهمة في فهم العقيدة المهدوية هي معرفة أسباب الغيبة، فكثيراً ما يطرح هذا التساؤل: وهو لماذا غاب الإمام (عجّل الله فرجه)؟ وما هي الظروف والملابسات التي دعت إلى غيبة طويلة؟ ومن خلال النصوص الروائية يمكن تلخيص الأسباب:
أولاً: الخوف من القتل:
وهو سبب عقلائي يدفع بالإنسان أن يحافظ على نفسه من الأعداء، ومن الطبيعي أن الإمام (عجّل الله فرجه) لا يخاف على نفسه القتل، وإنما على الدين، لأن إقامة المشروع الإلهي والدولة العادلة مرتبطة بشخصه الشريف، فإذا قتل فلا يقام العدل والقسط، لذا كان من الضروري أن يحافظ على نفسه من القتل، فغاب بإذن الله تعالى، وهذا الخوف يذكّرنا بخوف نبي الله موسى (عليه السلام) عندما خاف من القتل، قال تعالى: ﴿فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ﴾ (الشعراء: ٢١). وكذا يذكرنا بخوف الإمام الحسين (عليه السلام) عندما أرادوا قتله في المدينة المنورة فخاف وخرج إلى مكة.
وقد يطرح سؤال، وهو: لماذا الإمام المعصوم أو الأنبياء يتّصفون بصفة الخوف؟ أليس ذلك عيباً ومنقصة؟
والجواب: أن الخوف ظاهرة طبيعية عند بني البشر، فالإنسان يخاف من الشرور، فكيف إذا كان الشر عظيماً جداً، مثل القتل، وخصوصاً إذا كان الشخص لديه مشروع إلهي، كالرسالة أو الإمامة أو إقامة الدولة العادلة، نعم، الاتِّصاف بالجُبن منقصة، وهو ضد الشجاعة، وهذه الصفة أي - الجُبن - تتنافى مع العصمة، وهذا بحث آخر.
وهناك تساؤل آخر حاصله أن الخوف قد زال، فلماذا لا يظهر؟
والجواب واضح: فأي أمان هذا في الوقت الذي نجد أغلب البلدان - ومنها بلدان المسلمين - ينتشر فيها القتل والإرهاب على قدمٍ وساق، بحيث لا يدري الإنسان متى يلقى حتفه وعلى يد من؟
لذا فإن الخوف مستمر ولا يمكن القول بأن الوضع الآن آمن.
والروايات التي تدل على أنَّ من أسباب الغيبة، خوفه (عجّل الله فرجه) من القتل، عديدة، نذكر منها:
الرواية الأولى:
روى الشيخ الكليني عن زرارة بن أعين قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): «لابد للغلام من غيبة»، قلت: ولم؟ قال: «يخاف - وأومأ بيده إلى بطنه -...»(٢٣).
الرواية الثانية:
روى الشيخ الطوسي، عن زرارة، قال: إن للقائم غيبة قبل ظهوره، قلت: [و]لِمَ؟ قال: يخاف القتل(٢٤).
الرواية الثالثة:
روى الشيخ الصدوق، عن زرارة، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «للقائم غيبة قبل قيامه»، قلت: ولِمَ؟ قال: «يخاف على نفسه الذبح»(٢٥).
الرواية الرابعة:
روى الشيخ الصدوق، عن يونس بن عبد الرحمن، قال: دخلت على موسى بن جعفر (عليهما السلام) فقلت له: يا بن رسول الله، أنت القائم بالحق؟ فقال: «أنا القائم بالحق، ولكن القائم الذي يطهر الأرض من أعداء الله (عزَّ وجلَّ) ويملأها عدلاً كما ملئت جوراً وظلماً، هو الخامس من ولدي، له غيبة يطول أمدها خوفاً على نفسه، يرتد فيها أقوام ويثبت فيها آخرون...»(٢٦).
ولتتميم الفائدة ننقل كلاماً للشيخ المفيد والشيخ الطوسي (رحمهما الله) حول هذا السبب، أي الخوف من الأعداء.
قال الشيخ المفيد (قدّس سرّه): (أمّا تقية من أعدائه فلا حاجة لي إلى الكلام فيها لظهور ذلك، وأمّا تقيته ممن لا يعرفه، فإنما قلت ذلك على غالب الظن وظاهر الحال وذلك أنه ليس يبعد أن لو ظهر لهم لكانوا بين أمور، إمّا أن يسفكوا دمه بأنفسهم لينالوا بذلك المنزلة عند المتغلب على الزمان ويحوزوا به المال والرياسة أو يسعوا به إلى من يحل هذا الفعل به أو يقبضوا عليه ويسلموه إليه، فيكون في ذلك عطبه، وفي عطبه وهلاكه عظيم الفساد)(٢٧).
وقال (قدّس سرّه) أيضاً: (ثم كان من أمر المعتمد بعد وفاة أبي محمد (عليه السلام) ما لم يخف على أحد من حبسه لجواريه والمساءلة عن حالهن في الحمل واستبراء أمرهن، عندما اتَّفقت كلمة الإمامية على أن القائم هو ابن الحسن (عليه السلام)، فظن المعتمد أنه يظفر به فيقتله ويزيل طمعهم في ذلك، فلم يتمكن من مراده وبقي بعض جواري أبي محمد (عليه السلام) في الحبس أشهراً كثيرة...)(٢٨).
قال الشيخ الطوسي (قدّس سرّه): (لا علة تمنع من ظهوره إلّا خوفه على نفسه من القتل، لأنه لو كان غير ذلك لما ساغ له الاستتار وكان يتحمل المشاق والأذى فإن منازل الأئمة وكذلك الأنبياء (عليهم السلام) إنما تعظم لتحملهم المشاق العظيمة في ذات الله تعالى.
فإن قيل: هلّا منع الله من قتله بما يحول بينه وبين من يريد قتله؟
قلنا: المنع الذي لا ينافي التكليف هو النهي عن خلافه، والأمر بوجوب اتِّباعه ونصرته والتزام الانقياد له وكل ذلك فعله تعالى، وأمّا الحيلولة بينهم وبينه فإنه ينافي التكليف وينقض الغرض [به] لأن الغرض بالتكليف استحقاق الثواب والحيلولة ينافي ذلك، وربما كان في الحيلولة والمنع من قتله بالقهر مفسدة للخلق فلا يحسن من الله فعلها)(٢٩).
ثانياً: الامتحان والاختبار:
إن الامتحان والاختبار من السنن الإلهية الجارية على جميع بني البشر، قال تعالى: ﴿أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ﴾ (العنكبوت: ٢).
لذا كان هذا الاختبار الإلهي في الغيبة للإمام الثاني عشر (عجّل الله فرجه) لغرض اختبار الناس ليُعرَف الصابر من القانط، وليميز المؤمن من غيره، وليعلم الثابت على دينه من المتزلزل، وقد وردت نصوص كثيرة تصرح بذلك، نذكر منها:
الرواية الأولى:
روى أبو محمد الحسن بن عيسى عن أبيه عيسى بن محمد بن علي عن أبيه محمد بن علي بن جعفر(٣٠)، قال: قال: «يا بني إذا فقد الخامس من ولد السابع من الأئمة (عليهم السلام) فالله الله في أديانكم، فإنه لابد لصاحب هذا الأمر من غيبة يغيبها حتى يرجع عن هذا الأمر من كان يقول به.
يا بني إنما هي محنة من الله (عزَّ وجلَّ) يمتحن بها خلقه ولو علم آباؤكم أصح من هذا الدين لاتَّبعوه».
قال أبو الحسن: فقلت له: يا سيدي من الخامس من ولد السابع؟
قال: «يا بني عقولكم تصغر عن هذا، وأحلامكم تضيق عن حمله ولكن إياكم إن تفشوا بذكره»(٣١).
الرواية الثانية:
روى الشيخ النعماني، عن أبي بصير، قال: سمعت أبا جعفر محمد بن علي (عليهما السلام) يقول: «والله لتميزن، والله لتمحصن، والله لتغربلن كما يغربل الزؤان(٣٢) من القمح»(٣٣).
ثالثاً: كي لا تقع في عنقه بيعة لظالم:
البيعة تعني أن يضع الإنسان المبايع يده في يد الشخص الذي يبايعه وتكون معقودة للولاية والنصرة، كالبيعة التي حصلت من المسلمين للنبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) حيث بايعوه عدة بيعات: بيعة العقبة الأولى، والعقبة الثانية، والرضوان.
وقد يبايع الإنسان من ليس له استحقاق كالبيعة التي حصلت لملوك الأمويين والعباسيين.
وقد ورد في النصوص الشريفة أن الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) غاب لكي لا يعطي البيعة للظالمين، فالبيعة يجب أن تكون له (عجّل الله فرجه)، ولنذكر بعض النصوص في ذلك:
الرواية الأولى:
روى الشيخ علي بن بابويه القمي، عن هشام بن سالم، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «يقوم القائم (عليه السلام) وليس لأحد في عنقه بيعة»(٣٤).
الرواية الثانية:
روى الشيخ الصدوق بسنده عن علي بن الحسين سيد العابدين (عليهما السلام): «القائم منّا، تخفى ولادته على الناس حتى يقولوا: لم يولد بعد، ليخرج حين يخرج وليس لأحد في عنقه بيعة»(٣٥).
الرواية الثالثة:
روى الشيخ الصدوق: عن حنان بن سدير، عن أبيه سدير بن حكيم، عن أبيه عن أبي سعيد عقيصا قال: لمّا صالح الحسن بن علي (عليهما السلام) معاوية بن أبي سفيان دخل عليه الناس، فلامه بعضهم على بيعته، فقال (عليه السلام): «ويحكم، ما تدرون ما عملت، والله، الذي عملت خير لشيعتي مما طلعت عليه الشمس أو غربت، ألا تعلمون أنني إمامكم مفترض الطاعة عليكم وأحد سيدي شباب أهل الجنة بنص من رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) عليَّ»؟ قالوا: بلى، قال: «أما علمتم أن الخضر (عليه السلام) لما خرق السفينة وأقام الجدار وقتل الغلام، كان ذلك سخطاً لموسى بن عمران إذ خفي عليه وجه الحكمة في ذلك، وكان ذلك عند الله تعالى ذكره حكمة وصواباً؟ أما علمتم أنه ما منّا أحد إلّا ويقع في عنقه بيعة لطاغية زمانه إلّا القائم الذي يصلي روح الله عيسى بن مريم (عليه السلام) خلفه، فإن الله (عزَّ وجلَّ) يخفي ولادته، ويغيب شخصه لئلا يكون لأحد في عنقه بيعة إذا خرج، ذلك التاسع من ولد أخي الحسين ابن سيدة الإماء، يطيل الله عمره في غيبته، ثم يظهره بقدرته في صورة شاب دون أربعين سنة، ذلك ليعلم أن الله على كل شيء قدير»(٣٦).
توجيه عبارة: «ما منّا أحد إلّا ويقع في عنقه بيعة»:
ولعلَّ سائلاً يسأل: ماذا تعني عبارة «ما منّا أحد إلّا ويقع في عنقه بيعة لطاغية زمانه» الواردة في الرواية الثالثة؟
هل إن معناها أن كل الأئمة (عليهم السلام) قد بايعوا الطغاة؟
والجواب: أن الاحتمالات ثلاثة:
الاحتمال الأول: أن معنى البيعة هو عدم قيام المعصوم بمواجهة الطاغية مواجهة عسكرية وذلك لعدم توفر الظروف الموضوعية والشروط اللازمة للقيام.
الاحتمال الثاني: البيعة بمعنى الاعتراف الظاهري بخلافة الظالم وليس اعترافاً حقيقياً(٣٧).
الاحتمال الثالث: قد يكون معناها هنا كالمعنى اللغوي بمعنى المعاهدة، وهذا من الممكن أن يحصل كما كان يفعل الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) مع المشركين أو يعقد معاهدة للصلح كما فعل الإمام الحسن (عليه السلام) في صلحه مع معاوية.
ومن هنا نفهم أن الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) لا يبايع الظالم، لا بيعة واقعية ولا بيعة ظاهرية أبداً، وقد يقول قائل: إذا كان في حكمة الله تعالى أن يغيِّب الإمام (عجّل الله فرجه) عن الظالمين فلا تبقى حاجة وموضوع للبيعة؟
والجواب: أن الله تعالى سيطوّل غيبة الإمام (عجّل الله فرجه) وذلك لغاية، وهي أنه لو ظهر في زمن غير مناسب فسوف تكون له بيعة ظاهرة، ولكي يتجنَّب ذلك طالت غيبته (عجّل الله فرجه) لهذا الغرض، وقد أوضحنا أن هذا السبب هو جزء العلة وليس هو علة تامة للغيبة، ولعله ينسجم مع طول الغيبة بقاءً أكثر منه حدوثاً.
رابعاً: سر من أسرار الله تعالى:
لا يخفى أن غيبة الإمام (عجّل الله فرجه) هي من الغيب الذي ينبغي الإيمان به، وإن لم نعرف ما هو وجه الحكمة فيه.
لذا ورد في الروايات أن الغيبة من الأسرار الإلهية التي خفيت عنّا، ولا يمكن التعرف عليها إلّا بعد الظهور للإمام (عجّل الله فرجه).
وفي ذلك ننقل بعض النصوص:
الرواية الأولى:
روى الشيخ الصدوق عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): «إنَّ علي بن أبي طالب (عليه السلام) إمام أمتي وخليفتي عليها من بعدي، ومن ولده القائم المنتظر الذي يملأ الله به الأرض عدلاً وقسطاً كما ملئت جوراً وظلماً، والذي بعثني بالحق بشيراً إنَّ الثابتين على القول به في زمان غيبته لأعز من الكبريت الأحمر»، فقام إليه جابر بن عبد الله الأنصاري فقال: يا رسول الله وللقائم من ولدك غيبة؟ قال: «إي وربي، وليمحص الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين، يا جابر إن هذا الأمر (أمر) من أمر الله وسر من سر الله، مطوي عن عباد الله، فإياك والشك فيه فإن الشك في أمر الله (عزَّ وجلَّ) كفر»(٣٨).
الرواية الثانية:
روى الشيخ الصدوق: حدثنا علي بن عبد الله الوراق قال: حدثنا سعد بن عبد الله، عن أحمد بن إسحاق بن سعد الأشعري قال: دخلت على أبي محمد الحسن بن علي (عليهما السلام) وأنا أريد أن أسأله عن الخلف [من] بعده، فقال لي مبتدئاً: «يا أحمد بن إسحاق، إنَّ الله تبارك وتعالى لم يخلِ الأرض منذ خلق آدم (عليه السلام) ولا يخليها إلى أن تقوم الساعة من حجة لله على خلقه، به يدفع البلاء عن أهل الأرض، وبه ينزل الغيث، وبه يخرج بركات الأرض... يا أحمد بن إسحاق: هذا أمر من أمر الله، وسر من سر الله، وغيب من غيب الله، فخذ ما آتيتك واكتمه وكن من الشاكرين تكن معنا غداً في عليين»(٣٩).
الرواية الثالثة:
روى الشيخ الصدوق عن عبد الله بن الفضل الهاشمي قال: سمعت الصادق جعفر بن محمد (عليهما السلام) يقول: «إنَّ لصاحب هذا الأمر غيبة لابد منها، يرتاب فيها كل مبطل»، فقلت: ولمَ جعلت فداك؟ قال: «لأمر لم يؤذن لنا في كشفه لكم»؟ قلت: فما وجه الحكمة في غيبته؟ قال: «وجه الحكمة في غيبته وجه الحكمة في غيبات من تقدمه من حجج الله تعالى ذكره، إن وجه الحكمة في ذلك لا ينكشف إلّا بعد ظهوره كما لم ينكشف وجه الحكمة فيما أتاه الخضر (عليه السلام) من خرق السفينة، وقتل الغلام، وإقامة الجدار لموسى (عليه السلام) إلى وقت افتراقهما.
يا بن الفضل: إن هذا الأمر أمر من (أمر) الله تعالى وسر من سر الله، وغيب من غيب الله، ومتى علمنا أنه (عزَّ وجلَّ) حكيم صدقنا بأن أفعاله كلها حكمة وإن كان وجهها غير منكشف»(٤٠).
خامساً: الظلم والتجاوز على الأُمّة سبب لغيبة الإمام (عجّل الله فرجه):
لا شك أن من أهم النعم التي أنعم الله تعالى بها على الإنسان هي نعمة وجود الإمام المعصوم، هذه النعمة التي طالما تحتاج إلى شكر ولكن كثيراً من الناس لم يؤدوا حقها.
ورد عن أمير المؤمنين (عليه السلام): «ما بال أقوام غيَّروا سُنة رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وعدلوا عن وصيته؟ لا يتخوفون أن ينزل بهم العذاب» ثم تلا هذه الآية «﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دارَ الْبَوارِ﴾» (إبراهيم: ٢٨)، ثم قال: «نحن النعمة التي أنعم الله بها على عباده، وبنا يفوز من فاز يوم القيامة»(٤١).
وفي خصوص الإمام المنتظر (عجّل الله فرجه) وردت النصوص أن غيابه (عجّل الله فرجه) هو سلب للنعمة بسبب ظلم الناس وتجاوزهم وطغيانهم، وإليك بعض النصوص:
الرواية الأولى: عن المفضل بن عمر، قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): «... واعلموا أن الأرض لا تخلو من حجة لله (عزَّ وجلَّ)، ولكن الله سيعمي خلقه عنها بظلمهم وجورهم وإسرافهم على أنفسهم، ولو خلت الأرض ساعة واحدة من حجة لله لساخت بأهلها، ولكن الحجة يعرف الناس ولا يعرفونه، كما كان يوسف يعرف الناس وهم له منكرون»، ثم تلا: «﴿يا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ ما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُونَ﴾ [يس: ٣٠]»(٤٢).
الرواية الثانية: روى الشيخ الكليني عن محمد بن الفرج قال: كتب إلي أبو جعفر (عليه السلام): «إذا غضب الله تبارك وتعالى على خلقه نحّانا عن جوارهم»(٤٣).
الرواية الثالثة: روى الشيح الطوسي عن المفضل بن عمر الجعفي قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): «... فإن أشد ما يكون غضب الله على أعدائه إذا افتقدوا حجته، فلم يظهر لهم، وقد علم أن أولياءه لا يرتابون، ولو علم أنهم يرتابون ما غيب (عنهم) حجته طرفة عين، ولا يكون ذلك إلّا على رأس أشرار الناس»(٤٤).
الرواية الرابعة: روى الشيخ الصدوق عن أحمد بن الحسين بن عمر بن محمد بن عبد الله عن مروان الأنباري قال: خرج من أبي جعفر (عليه السلام): «إن الله إذا كره لنا جوار قوم نزعنا من بين أظهرهم»(٤٥).
وقد يطرح هاهنا تساؤل، وهو: هل من المعقول أن تسلب النعمة عن المؤمنين؟ ألا يعد ذلك ظلماً؟
ويمكن الجواب: أن هذه النعم التي أنعم الله بها علينا، ومنها نعمة حضور الإمام (عجّل الله فرجه) هي في الحقيقة تفضل من الله تعالى ورحمة، فيمكن أن يرفعها تعالى لسبب، مثل ارتكاب الذنوب، وليس هي استحقاق حتّى يوجب زوالها الظلم، فالذنوب والمعاصي ترفع النعم، فنحن نقرأ في دعاء كميل (رحمه الله): «اللهم اغفر لي الذنوب التي تغيِّر النعم»(٤٦).
ويقول الشيخ المازندراني: (إن الذنوب الظاهرة قد توجب سلب النعمة الواصلة على ما روى ما أنعم الله على عبد نعمة فسلبها إياها حتى يذنب ذنباً يستحق بذلك السلب ودلَّ عليه أيضاً قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ﴾ (الرعد: ١١))(٤٧).
وورد في تفسير الأمثل: (وعليه فعندما ينسب الشر إلى الله فإنما يقصد به على الظاهر سلب النعمة، وهو بحد ذاته خير، فهو إمّا أن يكون للإيقاظ والتربية والتعليم وكبح حالات الغرور والطغيان والذاتية أو لمصالح أخرى)(٤٨).
سادساً: تخلية أصلاب الكفار من جميع المؤمنين:
اقتضت مشيئة الله تعالى أنَّ أُناساً مؤمنين يلقيهم الله تعالى في أصلاب قوم كافرين، قال تعالى: ﴿يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ المَيِّتِ﴾ (الأنعام: ٩٥) وقد ورد أن الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) لا يظهر حتّى يظهر آخر هؤلاء المؤمنين إلى الدنيا من أصلاب الكافرين إكراماً لهم، ومن الواضح أن هذا كما هو سبب للغيبة هو سبب لاستمرارها وطولها، ولنذكر نصاً ورد في ذلك:
روى الشيخ الصدوق: عن محمد بن أبي عمير، عمن ذكره، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قلت له: ما بال أمير المؤمنين (عليه السلام) لم يقاتل مخالفيه في الأول؟ قال: «لآية في كتاب الله تعالى: ﴿لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً﴾ [الفتح: ٢٥]»، قال: قلت: وما يعني بتزايلهم؟ قال: «ودائع مؤمنون في أصلاب قوم كافرين، وكذلك القائم (عجّل الله فرجه) لم يظهر أبداً حتّى تخرج ودائع الله (عزَّ وجلَّ)، فإذا خرجت ظهر على من ظهر من أعداء الله (عزَّ وجلَّ) فقتلهم»(٤٩).
وهنا تساؤل، وهو: إذا كان الإمام (عجّل الله فرجه) لا يظهر إلّا بعد تخلية المؤمنين من صلب الكفار، فهل تخلو الأرض منهم عند ظهوره؟
والجواب: أن الرواية التي صرَّحت بسبب الغيبة تصرِّح بأن الودائع المؤمَّنة تخرج، أي سوف لا يتولد مؤمن من كافر ولا تذكر أن الكفار أو المنافقين سيتوقف نسلهم، فممكن يتولدون ويكونون أعداءً للحجة (عجّل الله فرجه)، ولكن الله تعالى وعده بالنصرة عليهم.
سابعاً: إذاعة الأسرار:
من أسباب غيبته (عجّل الله فرجه) أنَّه لئلا يشتهر بين الناس ويُعرَف فيطلب، وهذا الاشتهار يحصل بسبب الناس فإنهم السبب في اشتهاره لذا غيّبه الله تعالى، مما ورد في ذلك:
الرواية الأولى:
الشيخ الكليني عن معروف بن خربوذ عن أبي جعفر (عليه السلام)، قال: «إنما نحن كنجوم السماء، كلَّما غاب نجم طلع نجم، حتَّى إذ أشرتم بأصابعكم وملتم بأعناقكم غيَّب الله عنكم نجمكم، فاستوت بنو عبد المطلب، فلم يعرف أي من أي، فإذا طلع نجمكم فاحمدوا ربكم»(٥٠).
قال المازندراني: (فإذا لم يكن الإمام ظاهراً وجب أن يكون محتجباً بحجاب الغيبة، كالنجم المحتجب بالسحاب، أمّا في قوله: «حتّى أشرتم بأصابعكم...»، الإشارة بالأصابع والميل بالأعناق كنايتان عن الشهرة والزيارة، وهما من أسباب غيبة الإمام (عجّل الله فرجه) عن شيعته ليحفظ نفسه المعصومة ونفوسهم المحترمة عن شر الأعداء...)(٥١).
الرواية الثانية:
روى الشيخ النعماني عن أبي الجارود، عن أبي جعفر الباقر (عليه السلام)، قال: «لا تزالون تمدون أعناقكم إلى الرجل منّا، تقولون: هو هذا، فيذهب الله به حتّى يبعث الله لهذا الأمر من لا تدرون وُلِد أم لم يولد، خُلِق أم لم يُخْلَق»(٥٢).
ثامناً: إتمام الحجة بأن تكون دولة أهل البيت (عليهم السلام) آخر الدول، ومما روي في ذلك عدة روايات، منها:
الرواية الأولى:
روى الشيخ الطوسي عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: «دولتنا آخر الدول، ولن يبق أهل بيت لهم دولة إلّا ملكوا قبلنا، لئلا يقولوا إذا رأوا سيرتنا: إذا ملكنا سرنا مثل سيرة هؤلاء، وهو قول الله (عزَّ وجلَّ): ﴿وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِين﴾ [الأعراف: ١٢٨]»(٥٣).
الرواية الثانية:
روى الشيخ النعماني عن هشام بن سالم، عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنه قال: «ما يكون هذا الأمر حتّى لا يبقى صنف من الناس إلّا وقد ولوا على الناس حتّى لا يقول قائل: إنّا لو ولّينا لعدلنا، ثم يقوم القائم بالحق والعدل»(٥٤).
الرواية الثالثة:
روى الصدوق عن محمد بن أبي عمير قال: كان الصادق جعفر بن محمد (عليه السلام) يقول:
«لكل أناس دولة يرقبونها |
ودولتنا في آخر الدهر تظهر»(٥٥) |
تاسعاً: إجراء سنن الأنبياء (عليهم السلام):
ورد في النصوص أن السنن الإلهية والقوانين التي جرت على الأنبياء السابقين ومنها الغيبة تجري على إمامنا المهدي (عجّل الله فرجه)، ولعلَّ هذه العلة في طول العلل الأخرى، فمثلاً من السنن الإلهية أن موسى (عليه السلام) غاب عن قومه، وكذا الإمام المهدي (عجّل الله فرجه)، لكن وراء ذلك سبب وهو الخوف من القتل أو غير ذلك.
ولنذكر نماذج من النصوص دالة على ذلك:
الرواية الأولى:
روى الشيخ الصدوق عن أبي بصير قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: «إن سنن الأنبياء (عليهم السلام) بما وقع بهم من الغيبات حادثة في القائم منّا أهل البيت، حذو النعل بالنعل والقذة بالقذة»(٥٦).
الرواية الثانية:
روى الرواندي عن أبي عبد الله (عليه السلام): «للقائم منّا غيبة يطول أمدها».
قيل: ولِمَ ذلك؟ قال: «لأن الله تعالى أبى إلّا أن تجري فيه سنن من الأنبياء في غيباتهم، فإنَّه لابد له من استيفاء مدة الغيبات، قال الله تعالى: ﴿لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَن طَبَقٍ﴾ [الانشقاق: ٤]، أي سنن من كان قبلكم»(٥٧).
الرواية الثالثة:
روى الشيخ الصدوق عن الحسن بن محمد بن صالح البزاز قال: سمعت الحسن بن علي العسكري (عليهما السلام) يقول: «إنَّ ابني هو القائم من بعدي وهو الذي يجري فيه سنن الأنبياء (عليهم السلام) بالتعمير والغيبة، حتّى تقسو القلوب لطول الأمد، فلا يثبت على القول به إلّا من كتب الله (عزَّ وجلَّ) في قلبه الإيمان وأيَّده بروح منه»(٥٨).
نتيجة البحث:
من خلال استنطاق النصوص الشريفة المتمثلة بروايات لأهل البيت (عليهم السلام) تم إثبات تسعة أسباب أو علل لغيبة الإمام المهدي (عجّل الله فرجه):
(الخوف، الامتحان، عدم بيعة الظالم، سلب النعمة، تخلية أصلاب الكفار من المؤمنين، إذاعة الأسرار، إتمام الحجة وإجراء سنن الأنبياء (عليهم السلام)).
والتاسع منها: وإنْ عددناه في عداد الأسباب إلّا أنه في الحقيقة سبب غير معلوم لنا كونه سر من أسرار الله تعالى، وإنَّما عددناه لأجل ذكر الروايات له.
وتم علاج بعض الإشكالات التي أثيرت ضد علة الخوف، كما وتم إعطاء تفسيرات للإشكال الذي يثار ضد العلة الثالثة.
وأيضاً من خلال البحث عن حقيقة الغيبة لغةً واصطلاحاً، ذكرنا محاولة لإيجاد ملائمة بين معنى الغيبة في الروايات التي ذكرت أكثر من معنى وبين المعنى المصطلح واللغوي.
الهوامش:
(١) كشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد (تحقيق الآملي) - العلامة الحلي: ص١٦٩.
(٢) الأصول العامة للفقه المقارن: ص٣٠٨.
(٣) المصدر السابق.
(٤) الفروق اللغوية: ص٣٨٢.
(٥) الأصول العامة للفقه المقارن: ص٣١١.
(٦) أصول المظفر: ١/١٦٤.
(٧) كمال الدين وتمام النعمة: ص٤٨٣-٤٨٥.
(٨) المفردات في غريب القرآن: ٣٦٦.
(٩) معجم مقاييس اللغة: ٤/٤٠٣.
(١٠) الفروق اللغوية: ٦٣.
(١١) معجم مقاييس اللغة: ٤/٤٠٣.
(١٢) التبيان: ٥٥.
(١٣) القاموس المحيط: ٢/١٠.
(١٤) مجمع البحرين: ٢/٩٣٨.
(١٥) الأنعام: ٧٣ / التوبة: ٩٤، ١٠٥ / الرعد: ٩ / المؤمنون: ٩٢ / السجدة: ٦ / الزمر: ٤٦ / الحشر: ٢٢ / الجمعة: ٨ / التغابن: ١٨.
(١٦) المفردات في غريب القرآن: ٣٦٦.
(١٧) المصدر السابق.
(١٨) المصدر السابق.
(١٩) كمال الدين وتمام النعمة: ٤٤٠.
(٢٠) الغيبة للنعماني: ١٦٧.
(٢١) الكافي١/٣٣٣.
(٢٢) الإمامة والتبصرة: ١١٨.
(٢٣) الكافي١/٣٤٢.
(٢٤) الغيبة للشيخ الطوسي: ٣٣٢.
(٢٥) كمال الدين وتمام النعمة: ٤٨١.
(٢٦) كمال الدين وتمام النعمة: ٣٦١.
(٢٧) الفصول المختارة: ص١١١.
(٢٨) الفصول المختارة: ص٣٢٨.
(٢٩) الغيبة للشيخ الطوسي: ص٣٢٩.
(٣٠) في بقية المصادر بزيادة: عن علي بن جعفر عن أخيه موسى بن جعفر (عليه السلام).
(٣١) دلائل الإمامة: ٥٣٤.
(٣٢) الزؤان: ما ينبت غالباً بين الحنطة.
(٣٣) الغيبة للنعماني: ٢١٣.
(٣٤) الإمامة والتبصرة: ١١٦.
(٣٥) كمال الدين وتمام النعمة: ٣٢٢.
(٣٦) كمال الدين تمام النعمة: ٣١٦.
(٣٧) تا ظهور (باللغة الفارسية) /نجم الدين الطبسي١/١٧.
(٣٨) كال الدين تمام النعمة: ٢٨٧.
(٣٩) كمال الدين وتمام النعمة: ٣٨٤-٣٨٥.
(٤٠) كمال الدين وتمام النعمة: ٤٨١-٤٨٢.
(٤١) الكافي: ١/٢١٧.
(٤٢) الغيبة للشيخ النعماني: ١٤٤.
(٤٣) الكافي: ١/٣٤٣.
(٤٤) الغيبة للشيخ الطوسي: ٤٥٧.
(٤٥) علل الشرائع: ١/٢٤٤.
(٤٦) مصباح المتهجد: ص٨٤٤.
(٤٧) شرح أصول الكافي: ٣/١٥٢.
(٤٨) تفسير الأمثل: ٦/٤٨٣.
(٤٩) كمال الدين وتمام النعمة: ٦٤١.
(٥٠) الكافي: ١/٣٣٨؛ الغيبة للنعماني: ١٥٨.
(٥١) شرح أصول الكافي: ٦/٢٥٩.
(٥٢) الغيبة للنعماني: ١٨٩.
(٥٣) الغيبة للشيخ الطوسي: ٤٧٢.
(٥٤) كتاب الغيبة للنعماني: ج١، ص٢٨٠، رقم الحديث٥٣.
(٥٥) المصدر السابق.
(٥٦) كمال الدين وتمام النعمة: ٣٤٥، والقذة: ريش السهم.
(٥٧) الخرائج والجرائح: ٢/٩٥٥.
(٥٨) كمال الدين وتمام النعمة: ٥٢٤.